يقف العالم على أعتاب فوضى جيوسياسية تُبدل هيكل النظام الدولي الذي تَشكل منذ نهاية الحرب الباردة، وأحدث فوضى لـ”تراجيديا سياسات القوى العظمى”، فالتحولات الهيكلية في ميزان القوى تؤدي إلى صراعات حتمية، وانهيارات في النظام العالمي، وتزايد خطر الحروب الكبرى.
الصورة الأولية لما يحدث تظهر على هامش الأحداث الدولية التي تبدو هادئة، لكن النظام الدولي محكوم بصراع مستمر على القوة بين الدول الكبرى، ومحاولات ضبط هذا الصراع محكومة اليوم بالتحول في موازين الصراع من نظام أحادي القطبية تهيمن عليه الولايات المتحدة إلى نظام متعدد الأقطاب تغزوه تناقضات عميقة.
داخل المشهد الدولي تعيد روسيا ترسيم حدود القوة في أوروبا بقوة كما يظهر في أوكرانيا، أما الصين، بثقلها الاقتصادي والعسكري المتنامي، لم تعد مجرد منافس، بل باتت تشكل تحديا وجوديا للهيمنة الأميركية، في المقابل، تتموضع قوى إقليمية كالهند وتركيا والمملكة العربية السعودية كلاعبين متعددي الاتجاهات، يستثمرون الفراغات ويستغلون الانقسامات.
هذا المسرح العالمي الجديد يعيدنا إلى المفهوم الواقعي لـ”توازن القوى”، حيث تميل الدول إلى مقاومة الهيمنة، ما يولد منافسة شرسة تؤدي في حالات كثيرة إلى حروب ساخنة أو باردة، ويحمل معه تآكل الثقة بالمؤسسات الدولية، وعودة السيادة المطلقة كمنطق للفعل الدولي، مما يجعل التعاون نادرا والانقسام هو القاعدة.
تحليل الأزمات الجيوسياسية الكبرى
تُعيد التحديات الجيوسياسية المتصاعدة والحروب والصراعات الحديثة رسم خريطة النظام الدولي، حيث تحولت أوكرانيا إلى مسرح اختبار لإرادة الغرب وحدود الردع الاستراتيجي، بينما الشرق الأوسط يغرق في فوضى خلقتها تداخلات إقليمية وخارجية فشلت في إدارة تعقيداتها، وآسيا تشهد صراعا مؤجلا حول تايوان يُهدد بالتحوُّل إلى صدام عالمي، كما أن الصراع بين الهند وباكستان كقوتين نوويتين بات يحمل خطرا خصوصا بعد الاشتباكات الأخيرة بينهما.
هذه الأزمات، رغم اختلاف سياقاتها، تُظهر فشل الاستراتيجيات التقليدية وتُبرز صعود منطق الصراع بين القوى العظمى، ما يُعيد تعريف الأمن العالمي في ظل غياب حلول جذرية.
- أوكرانيا: اختبار لإرادة الغرب وحدود الردع
العملية العسكرية في أوكرانية تحولت إلى معركة كسر عظم بين روسيا والغرب، تتجاوز حدود كييف إلى بنية الأمن الأوروبي بأكملها، فمحاولة توسع الناتو شرقا كان محفزا مباشرا لهذه المواجهة، وروسيا، باعتبارها قوة عظمى، لا تقبل التهميش على حدودها الاستراتيجية.
الرد الغربي اقتصر على دعم عسكري واقتصادي لأوكرانيا، دون مواجهة مباشرة، ما كشف حدود الردع الأميركي، وعمّق الانقسام داخل الاتحاد الأوروبي، ومع استمرار العملية، ترتفع احتمالات التصعيد، سواء عبر استخدام روسيا للأسلحة المتقدمة، أو عبر فتح جبهات جديدة في دول البلطيق أو القوقاز.
- الشرق الأوسط: الفوضى الخلاقة تعود بثوب أشد قسوة
في الشرق الأوسط، تتكثف الفوضى بتشابك أزمات متعددة: الحرب في غزة، الصدامات الإقليمية بين إسرائيل وإيران، والاشتباكات بالوكالة في اليمن وسوريا والعراق، والمقاربة الأميركية القائمة على الردع المحدود والتدخلات الحذرة لم تنجح في احتواء التصعيد، حيث تفشل الليبرالية في محاولتها إعادة هندسة مجتمعات معقدة دون فهم لبنيتها الداخلية.
التقارب الأميركي- الإسرائيلي يواجه اليوم ارتدادات حادة، ليس فقط في صورة التوتر مع حلفاء واشنطن في المنطقة، بل أيضا من الداخل الأميركي ذاته، حيث يتصاعد الغضب الشعبي من الانخراط غير المحدود في صراع مكلف إنسانيا وسياسيا.
- آسيا والمحيط الهادئ: تايوان والنزاع المؤجل
الصراع حول تايوان لا يزال مؤجلا، لكنه يبقى على صفيح ساخن، فالصين تعتبر الجزيرة جزءا من أراضيها، وأي تحرك باتجاه إعلان الاستقلال يُعد خطا أحمر، أما الولايات المتحدة فتسعى إلى دعم تايبيه عسكريا دون استفزاز مباشر إلا أن منطق الواقعية في العلاقات الدولية يوضح أنه في حال صعود قوة جديدة، فإنها تختبر حدود القوة القديمة، ومع غياب إطار أمني مستقر في آسيا، فإن التصادم قادم، عاجلا أم آجلا.
استشراف مستقبل النظام الدولي
أمام هذا المشهد فإن السؤال الأساسي يبقى في اتجاهات النظام الدولي، والوضح أن التحول نحو نظام متعدد الأقطاب الذي أصبح واقعا سيحمل معه خطورة كبيرة، لأنه يزيد فرص سوء الفهم والتصعيد، ويقلل من فاعلية المؤسسات، ومع غياب قوة مهيمنة قادرة على فرض الاستقرار، فإن الفوضى تصبح الشكل الأكثر احتمالا للعلاقات الدولية، والسيناريوهات محتملة تتخلص بأربع احتمالات:
- التموضع نحو نظام تعددي هش وغير رسمي (كونسورتيوم قوى): يقوم على التنسيق الانتقائي لا على الالتزام المؤسسي ويسمح بإدارة الفوضى لا حلها، فنشهد نوعا من التوازن الهش، تقوده قوى كبرى (أميركا، الصين، روسيا، الاتحاد الأوروبي)، تتفاهم على خطوط حمراء مؤقتة لتجنب الانهيار الشامل.
- الانهيار التدريجي لمؤسسات النظام الليبرالي: حيث تفقد الأمم المتحدة ومجلس الأمن والهيئات المالية الدولية دورها التنفيذي، وتتحول إلى مساحات رمزية مع تزايد الاحتكام للقوة.
- تصاعد دور القوى المتوسطة: فدول مثل الهند، تركيا، البرازيل، وجنوب إفريقيا ستلعب أدوارا نوعية في إدارة الأزمات أو استثمارها، بفضل مرونتها وقدرتها على المناورة بين المحاور.
- خطر الحرب الكبرى: وهو ما تحذر منه تقارير مراكز التفكير الغربية، عبر سيناريو اندلاع صراع عالمي ثالث لم يعد خياليا، بل أصبح قابلا للتحقق إذا ما تلاقت أخطاء الحسابات مع اندفاعات قومية أو اضطرابات داخلية.
من الواضح أن العالم يسير نحو نظام دولي تسيطر عليه حالة من الفوضى البنيوية، ناتجة عن تغيرات القوة وغياب توازن مستقر،فالنظام الليبرالي العالمي لن يصمد طويلا في وجه القوى الصاعدة والمصالح الوطنية الجامحة.
التحولات الجارية لا تترك مجالًا للأوهام فلا عودة إلى عالم مستقر ومتعدد الأطراف كما عرفناه، بل أمامنا حقبة جديدة تتسم بالصراعات الصفرية، و”سياسة القوة العارية”، حيث الأمن القومي يتغلب على كل اعتبارات القانون والمبادئ، هذا هو وجه النظام الدولي في 2025: عالم منقسم، غير مستقر، يتقدمه شبح حرب لا أحد يريدها، لكن لا أحد يملك الجرأة الكافية لمنعها.
بقلم: مازن بلال
الاستخبارات الروسية: واشنطن تخطط لقلب السلطة في جورجيا خلال الانتخابات المقبلة