ما يثير السخرية وسط الفوضى السياسية والعسكرية التي تعصف بليبيا هو الاسم الذي تحمله الحكومة المعترف بها دوليا: “حكومة الوحدة الوطنية”، فلا شيء في طرابلس يوحي بالوحدة وكل زاوية في المشهد الليبي تكشف عن انقسامات عميقة.
عملياً فإن حكومة عبد الحميد الدبيبة التي أنهى البرلمان ولايتها منذ 10 فبراير 2022، لا تزال تصر على أنها الجهة الشرعية الوحيدة، في المقابل، تتصرف حكومة أسامة حماد، المعيّنة من مجلس النواب في الشرق، على أنها “الحكومة الشرعية” الجديدة، ولكن مسألة الانقسام لا ترتبط فقط بمسألة الإجراءات التي اتخذها البرلمان الليبي، فداخل حكومة طرابلس أزمات تتجاوز مفهوم “الانقسام” فهناك تفكك كامل لبنيتها السياسية والعسكرية والإدارية.
ثلاثة أعضاء.. ثلاث مبادرات دون رؤية
ظهر المجلس الرئاسي الليبي الحالي في 5 فبراير2021 خلال منتدى الحوار السياسي الليبي الذي رعته بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، وعُيّن أعضاؤه من خلال عملية تصويت أجراها أعضاء منتدى الحوار السياسي الليبي، البالغ عددهم 75 عضواً يمثلون مختلف مناطق ومكونات ليبيا، وكان من المفترض أن يكون المجلس جزءاً من خريطة الطريق ويقود البلاد بصيغة جماعية، لكنه تحول إلى ساحة تنافس داخلي، فرئيس المجلس محمد المنفي يقترح استفتاءً شعبياً على القوانين الخلافية من دون تحديد الجهة التي ستنفذ هذا الاستفتاء، وموسى الكوني يدفع باتجاه نظام الأقاليم الثلاثة، مع برلمانات محلية لكل إقليم، معتبراً أن المركزية هي أصل الصراع أما عبد الله اللافي، فله طرح ثالث يتلخص بانتخاب مجلس رئاسي جديد مباشرة من الشعب وتقسيم البلاد إلى 13 محافظة.
والمبادرات الثلاث الصادرة عن أعضاء المجلس تذهب باتجاهات مختلفة، بينما كان الهدف من المجلس أن يعمل كفريق واحد لتحضير ليبيا لمرحلة جديدة، فالمجلس الرئاسي في ظل ما يطرحه أعضاؤه اليوم فقد دوره كمظلة توجيهية موحدة، وتحول إلى ساحة تصفية حسابات وتنافس على النفوذ.
اشتباكات غريان.. والسلاح الذي يسبق السياسة
على الساحة الأمنية في الغرب الليبي فإن صورة الانقسام في المؤسسة السياسية تبد أعقد وأخطر، فمدينة غريان، بوابة الجبل الغربي، تحولت إلى جبهة صراع مسلح جديد بين قوة دعم الاستقرار بقيادة غنيوة الككلي، واللواء 444 بقيادة محمود حمزة، وسبب الاشتباك اعتقال ثمانية من عناصر 444 والاستيلاء على معداتهم، وكانت النتيجة تهديد باقتحام المدينة من قبل 444، وتصعيد ينذر بانهيار ما تبقى من التهدئة، والقوتان تتبعان إلى حكومة طرابلس لكنهما يتنافسان على السيطرة على الأرض.
وهذا المشهد ليس استثناء، بل هو ظاهرة منتشرة في عموم الغرب الليبي، فبدلاً من خضوع الفصائل الأمنية للدولة، باتت الدولة – أو ما تبقى منها – خاضعة للفصائل، كل فصيل يمتلك نفوذه وتحالفاته وميزانيته، وغريان ليست إلا واحدة من المدن التي تُدار عملياً من قِبل السلاح، لا القانون.
حرب تصريحات على حدود الجنوب
تخلق الأزمات المختلفة على طول الجغرافية الليبية حالة انقسام إضافة، فتأمين الحدود الجنوبية هو إحدى الملفات الشائكة التي أوضحت خطورة الانقسام الليبي، فبذريعة مكافحة الهجرة غير النظامية بدأ الدبيبة يلوّح بإرسال قوة عسكرية إلى الجنوب، ويطلب من اللواء 444 الاستعداد، بينما حذر حماد من التصعيد، معتبراً أن مثل هذا التحرك لن يكون شرعياً.
أصبح الجنوب الليبي في ظل الهشاشة السياسية لحكومة الدبيبة جغرافية شاسعة وضعيفة أمنياً، ولم تعد الحدود مجرد خطوط رسمتها الخرائط، بل أصبحت رمزاً في معركة الشرعية، على الأخص أن حكومة طرابلس تريد احتكار مسألة الجنوب لأنه بوابة العلاقة مع أوروبا المهتمة بالهجرة غير الشرعية عبر الحدود الجنوبية لليبيا.
ديوان المحاسبة.. جهاز رقابي يتحول إلى ساحة حرب
لم تسلم المؤسسات الإدارية من الانقسام، فرئيس ديوان المحاسبة خالد شكشك مُلاحَق قضائياً بقرار من محكمة نالوت، وتم إيقافه عن العمل مؤقتاً، أما نائبه عطية السعيطي فأعلن نفسه رئيساً بالإنابة، وهدد باعتبار أي تعامل مع شكشك “جريمة جنائية”، ووسط هذه الأزمة تدخل خالد المشري، رئيس مجلس الدولة المنقسم بدوره، مسانداً شكشك، ورفض القرار القضائي، فجهاز الرقابة الأعلى في البلاد، والمعني بكشف الفساد ومراقبة المال العام، أصبح هو نفسه غارقاً في انقسامات قانونية وسياسية، ما يجعله عاجزاً عن أداء أي دور رقابي حقيقي.
وبمراجعة سريعة للخارطة السياسية في طرابلس سنجد حكومة منتهية الولاية ترفض المغادرة، ومجلس رئاسي يحمل اتجاهات متناقضة، ومجلس دولة منقسم بين خالد المشري ومحمد تكالة، وقوتان أمنيتان تتقاتلان في غريان، إضافة لديوان محاسبة برأسين وصراع محتدم على الجنوب، وفي ظل هذا التشرذم كيف يمكن الحديث عن “وحدة”؟ ولماذا لا تتم مراجعة الاسم نفسه؟ هل يعقل أن تُسمى هذه البنية المتآكلة “حكومة الوحدة الوطنية”؟
ورغم أن المشكلة ليست في التسميات لكنها تعبر عن غياب المشروع السياسي الجامع، فكل طرف يتحرك وفق مصالحه، وكل مبادرة تصدر فقط للتشبث بالموقع السياسي وليس لحل الأزمة، حتى لجنة العشرين التابعة للبعثة الأممية لم تحدد أي سقف زمني، ولا يوجد مؤشرات على انتخابات وشيكة أو حوار جاد، فالانقسام لم يعد بين شرق وغرب، بل داخل مؤسسة في الغرب الليبي حيث من يفترض أنهم في خندق واحد، لكنهم يتصارعون فيما بينهم وهذه الديناميكية تُعيد ليبيا إلى نقطة الصفر، وربما إلى ما هو أسوأ.
وسط كل هذه الفوضى، تتدهور أوضاع الناس، فالبنية التحتية تنهار، والخدمات معدومة والفساد مستشر، والاقتصاد في مهب التهريب والسوق السوداء، أما الفصائل السياسية والعسكرية، فتتصارع على المكاسب، دون أي اعتبار لما يعيشه المواطن الليبي.
ما يجري اليوم في ليبيا ليس مجرد خلاف سياسي، بل تفكك عميق في كل مفاصل الدولة، والحاجة ملحة لتغيير جذري في الخطاب والسياسات وحتى الأسماء، فحكومة تحمل اسم “الوحدة الوطنية” وهي عاجزة عن توحيد ثلاثة أعضاء في مجلسها الرئاسي، ناهيك عن توحيد الجيش أو المؤسسات، لا تستحق هذا الاسم، والواقعية تتطلب مشروعاً حقيقياً يتم عبره بناء إرادة وشفافية، والتفاهم على دولة لكل الليبيين، لا دولة مقسمة بين السلاح والسلطة والصفقات.
بقلم نضال الخضري