06 ديسمبر 2025

مقتل عبد الغني الككلي، الملقب بـ”غنيوة”، لم يكن مجرد نهاية لشخصية أمنية مثيرة للجدل في العاصمة الليبية، بل كان تصفية رمزية لمعادلة معقدة داخل الدولة الليبية، كان غنيوة أحد أبرز أضلاعها.

العملية التي أنهت حياته في معسكر التكبالي لم تسقط منظومته، بل كشفت مدى تغلغلها في قلب مؤسسات الدولة، ومدى هشاشة الحدود بين “الميليشيا” و”الشرعية”، وما حدث في 17 مايو 2025، وفق توصيف رئيس حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية عبد الحميد دبيبة، كان خطوة باتجاه إعادة هيبة الدولة، لكن السياق يشير إلى شيء أعمق: محاولة متأخرة لاحتواء غول أُطلق منذ سنوات تحت مسمى “دمج التشكيلات المسلحة”.

من رجل أمن إلى قائد منظومة

نشأ غنيوة وسط فراغ أمني وعسكري، وظهر من تداعيات انهيار الأجهزة الرسمية وصعود منطق السلاح كوسيلة وحيدة لضبط الشارع، والبداية كانت من أبو سليم لكن النفوذ تمدد مع الزمن مدعوماً من تحالفات محلية ودولية، ورسخ شرعيته بوظائف أمنية، ابتداء من قيادة جهاز الأمن المركزي، وانتهاء برئاسة جهاز دعم الاستقرار التابع للمجلس الرئاسي في 2021.

لم يكن غنيوة مجرد قائد ميليشيا، بل جزءاً من البنية الرسمية، ومارس من هذا الموقع سيطرة فاقت الحدود الأمنية، فكان يقف على قمة هرم أمني مواز لسلطة الدولة من خلال شبكة معقدة من المؤسسات، منها ستة مصارف بحسب تصريح الدبيبة، وأجهزة سيادية كالجيش وجهاز الأمن الداخلي وديوان المحاسبة، وكانت  كافة هذه المؤسسات ضمن نفوذه، إما بالهيمنة المباشرة أو التهديد والتخويف.

السؤال الأهم: لماذا تمت تصفيته الآن؟ فتوقيت العملية الأمنية يشير إلى تقاطع ثلاثة عوامل رئيسية:

  1. تحول داخلي في توازن القوى داخل العاصمة، وبروز لواء 444 كقوة نظامية شبه مستقلة، تتلقى دعما سياسيا ضمنيا من رئاسة الحكومة، وتطمح لأن تكون نواة لجيش مركزي.
  2. ضغوط دولية متزايدة، خاصة من بعثة الأمم المتحدة، التي لم تعد قادرة على تبرير وجود ميليشيات مسلحة ضمن أطر الدولة بعد تفاقم الانتهاكات.
  3. سعي حكومة الدبيبة لتلميع صورتها قبيل أي تسوية سياسية محتملة، عبر تحركات “أمنية” تروّج لها كاستعادة للسيادة الوطنية.

لكن كل هذه العوامل لم تكن كافية وحدها، فالأرجح أن غنيوة تجاوز “سقف التفاهمات” المعتاد، ربما بتحركات عسكرية أو مالية أثارت مخاوف صانعي القرار، وجعلت استمراره تهديدا، لا مجرد حرجاً.

الدولة داخل الدولة

الروايات الرسمية حول الجرائم التي ارتكبها غنيوة، من نشر الرعب بالمناشير، إلى المقابر الجماعية، إلى شبكة المرتزقة من أوروبا الشرقية، تمثل في جوهرها خطابا يهدف إلى شيطنة الرجل بعد سقوطه، لكن جوهر المعادلة يتجاوز الشخص، فالسؤال الأهم ليس ماذا فعل غنيوة، بل كيف سُمح له بذلك، ومن كان يوفر له الغطاء؟

محمود حمزة، قائد اللواء 444، قدّم في تصريحاته سردية واضحة، تتلخص بأن غنيوة لم يكن يتحرك بمفرده، بل ضمن مشروع أكبر، واستُخدم من قبل دول ومخابرات، وكان يستعد لحرب قادمة، وكلام محمود حمزة بدا أقرب إلى تعرية سياسية منه إلى تبرير أمني، فالخصم، وإن انتهى جسديا، فإن هياكله باقية.

بعد مقتله، لم تُحل مشكلة جهاز دعم الاستقرار، ولا تمت تصفية نفوذه بالكامل، ولا يزال العديد من عناصره ومن يقودهم مدمجين داخل أجهزة الدولة، وهذه المعضلة تتجاهلها الرواية الرسمية التي تتلخص بأن منظومة غنيوة لم تكن قائمة خارج الدولة، بل كانت في صلبها، ورغم أن الدبيبة أقر بهذا حين تحدث عن “اندماج بعض الميليشيات داخل المؤسسات”، إلا أن هذا الإقرار لا يرافقه أي خطة واقعية لإعادة هيكلة فعلية.

يظهر من تصريحات الدبيبة أنه كان يتعامل مع غنيوة وأمثاله من منطق الاحتواء لا المواجهة، فهو تحدث عن محاولة “التعامل معهم بهدوء”، وهذا الهدوء، وإن بدا “واقعيا” في لحظة ما، لكنه مكن غنيوة من بناء شبكته.

ما بعد غنيوة: احتكار العنف أم إعادة توزيعه؟

عملية تصفية غنيوة أثارت ترحيبا شعبيا واضحا في بعض الأوساط، خصوصاً من أهالي أبو سليم الذين عانوا من سطوة جهاز دعم الاستقرار، لكن من المبكر الحديث عن تحول جذري، فالجيش الليبي، ممثلاً بلواء 444، يبدو اليوم الطرف المنتصر، لكن ما يحدد مستقبل طرابلس ليس من يسيطر على المعسكرات، بل من يضع اليد على القرار السياسي.

ما جرى لا يمثّل إعادة احتكار للعنف بيد الدولة، بل أقرب إلى إعادة توزيع للعنف ضمن توازنات جديدة. والمخاوف من ارتدادات محتملة، أو من انتقام شبكات غنيوة المتبقية، تظل قائمة، خصوصا إذا لم تتبع العملية بخطة واضحة لإعادة ضبط العلاقة بين المؤسسات الأمنية والشرعية السياسية.

كان مقتل غنيوة لحظة مفصلية، لكن الخطورة تكمن في تحويلها إلى مجرد حملة علاقات عامة، فهل هي بداية حقيقية لتفكيك المنظومة التي أنتجته؟ أم مجرد “قربان” قدمته السلطة الحالية لتمرير رسائل سياسية؟ الواقع يقول إن منظومة غنيوة لم تسقط بعد، وما زالت بنية الدولة حاضنة لها، وما لم يتم تطهير حقيقي داخل الأجهزة الأمنية، ومحاسبة من تورط في التستر عليه، فستظهر نسخ أخرى منه، أكثر دهاء وأشد خطراً.

وبينما يردد قادة اللواء 444 بأنهم “اجتثوا الفساد”، فإن التجربة الليبية تعلمنا أن الأفراد يختفون، لكن الشبكات لا تموت بسهولة، يبقى السؤال الحقيقي معلقا: هل يمكن بناء دولة مؤسسات في بلد ما زال يتعامل مع الميليشيات كأمر واقع؟ أم أن نموذج غنيوة هو القاعدة، لا الاستثناء؟

بقلم مازن بلال

المشري يتمسك برئاسة المجلس الأعلى للدولة في ليبيا

اقرأ المزيد