لا شيء يحدث في ليبيا بالصدفة، فعندما اختارت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا (أونسميل) الإعلان عن تقرير لجنتها الاستشارية ومقترحاتها الخاصة بالمسار الانتخابي، كانت العاصمة طرابلس على صفيح ساخن.
المشهد في طرابلس كان مرعبا، ففي شوارعها لا أحد يُناقش مستقبل البلاد على طاولة حوار، بل على فوهات البنادق، واستعادت المدينة كل سيناريوهات الاشتباكات في 2014 و2019 وسط أرتال مدججة بالسلاح قدمت من زنتان ومصراتة والزاوية، وبين قوات محلية مثل ما تبقى من قوات “غنيوة”.

بين السياسة والعسكرة… فصل قسري
اللجنة الاستشارية التي شُكلت تحت إشراف أونسميل، وضمّت 20 شخصية ليبية، قدمت ما وصفته البعثة بـ”مخرجات حاسمة” لإنهاء الانسداد السياسي، واللافت أن التقرير النهائي، كما تشير التصريحات الرسمية، تجنّب تماما التطرق إلى قضية الجماعات المسلحة، وكأنها خط أحمر لا يمكن تجاوزه، أو مساحة خطرة يصعب الحديث عنها، فالتقرير لم يتطرق لا بإشارة صريحة إلى من يسيطر فعليا على الأرض، ولا إلى من يملك الكلمة الفصل في الانتخابات: البندقية أم صناديق الاقتراع؟
وهذا التجاهل يكشف أن المسار الأممي يعمل بشكل منفصل عن واقع في الميدان، ويتجاهل التداخل بين بعض التكوينات السياسية في الغرب الليبي المرتبطة بحكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية، وتشابك مصالحها مع العديد من المجموعات المسلحة المنتشرة في طرابلس ومحيطها، فهناك تداخل سياسي – عسكري، يجعل أي مشروع انتخابي يتقاطع مع مصالح أمراء الحرب.

مخرجات اللجنة: تفاؤل نظري… وتعقيد عملي
المقترحات التي عرضتها اللجنة ركزت على فك الارتباط بين نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وتقديم مسارات بديلة تشمل انتخابات برلمانية أولا، أو إنشاء مجلس تأسيسي، أو اعتماد أساس دستوري جديد، لكن هذه البدائل تبدو، حتى اللحظة، نظريات لا تجد طريقا إلى التطبيق، ومن جانب آخر، تحدث مستشار المجلس الرئاسي زياد دغيم عن نية المجلس إجراء استطلاع شعبي حول هذه الخيارات خلال شهرين، وهو تحرك قائم حسن النية ورفع الثقة بين الليبيين والمؤسسات السياسية، لكنه لن يغير المعادلة الأمنية ولا يضمن خضوع الجماعات المسلحة لنتائج الاستحقاقات المقبلة.

بالتزامن مع هذه التطورات السياسية، بدأ تصعيد عسكري متدرج في العاصمة، فأرتال مسلحة من خارج المدينة دخلت شوارع طرابلس، وتحشيدا تمركزت في العديد من النقاط، واشتباكات محلية بين ميليشيات محسوبة على أطراف سياسية متنافسة، ولم يصدر موقف رسمي من حكومة طرابلس أو من السلطات الأمنية، لكن السفارة الأمريكية والبعثة الأممية سارعتا إلى الدعوة لخفض التصعيد.
والسؤال الذي ظهر بشكل سريع وسط هذه الأجواء المشحونة: هل جاء هذا التصعيد من باب الصدفة؟ أم أنه رسالة واضحة إلى بعثة الأمم المتحدة مفادها أن القرار على الأرض لا يُصنع في المكاتب ولا في تقارير الخبراء، بل يُنتزع من خلال من يملك القوة والسلاح؟

من يحكم في الغرب الليبي؟
الواقع في طرابلس والمنطقة الغربية يُظهر بوضوح أن الجماعات المسلحة ليست مجرد “أطراف خارجية” في العملية السياسية، بل هي فاعل أساسي، لأنها على الأرض تتحكم في المفاصل الأمنية والإدارية، وتمتلك النفوذ والقدرة على التعطيل، وهذا ما يجعل الحديث عن أي انتخابات من دون موافقتها أشبه بطرح عبثي، بالمقابل، فإن الوضع في شرق ليبيا أكثر تماسكا، فأي خلافات سياسية هناك لا تنعكس أمنيا ولا تستدعي تحركات عسكرية، بل تبقى ضمن حدود السياسة، والأطراف في شرق ليبيا تبدو جاهزة للمشاركة في الانتخابات، وتحتفظ ببنية أكثر انضباطا.
حاول رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي احتواء الأزمة بلقاءات مكثفة، أبرزها مع ممثلي منطقة سوق الجمعة، الذين عبّروا عن رفضهم لتهميش الأجهزة الأمنية المحلية من قبل الحكومة، تصريحاته تؤكد أن “البلاد تمر بمنعطف خطير” وتدعو إلى التهدئة، لكنها تفتقر إلى خطة عملية للتعامل مع انفجار وشيك، في الوقت ذاته، لم تصدر أي مبادرة رئاسية لاحتواء الميليشيات أو لدمجها في هيكل الدولة، فكل ما يجري حتى الآن هو تعويم للأزمة، في انتظار ما تفرزه التداعيات للمعارك التي جرت.

معضلة الشرعية وتآكل الدولة
كان أبرز ما يكشفه التزامن بين الإعلان الأممي والتصعيد العسكري، هو أن “شرعية السلاح” ما زالت هي الحاكم الفعلي في طرابلس، وأن أي مسار انتخابي يتجاهل هذه الحقيقة، سيعيد إنتاج الفوضى بشكل أقسى، والنواب الذين دعوا لتشكيل حكومة موحدة وحذروا من عسكرة العاصمة، يعرفون جيدا صعوبة وجود ظهور حكومة تعمل بشكل طبيعي ما دامت بنادق الميليشيات تحدد ما يُسمح به وما يُمنع، وطرابلس التي من المفترض أن تكون عاصمة كل الليبيين، هي اليوم مختطفة بين مشاريع سلطوية متنازعة.

لا انتخابات بلا توافق ميداني
المفارقة في الوضع الليبي أن كل الأطراف تقول إنها تريد الانتخابات، لكنها تختلف على توقيتها وشروطها وضماناتها، أما اللاعب الغائب الحاضر في كل ذلك، فهو القوة المسلحة، فلا انتخابات بلا موافقة من يسيطر على الأرض، ولا خارطة طريق أممية يمكنها أن تُطبق في بيئة انفلات أمني، وإذا استمر التجاهل المتعمد لهذه الحقيقة، فإن أي محاولة للذهاب إلى صناديق الاقتراع ستقود إلى انفجار جديد.
التزامن بين مخرجات اللجنة والتصعيد العسكري في طرابلس ليس صدفة، بل تحذير عملي بأن أي تسوية لا تشمل حاملي السلاح، لن تصمد، ولن تُنفذ، وهي دعوة صريحة للأمم المتحدة كي تنزع نظارات الحياد التقليدي، وتواجه الواقع كما هو، لا كما تأمل أن يكون.
بقلم مازن بلال
ليبيا تتقدم في مؤشر حرية الصحافة العالمي لعام 2024
