05 ديسمبر 2025

إعلان مالي والنيجر وبوركينا فاسو انسحابها المشترك من المحكمة الجنائية الدولية مثّل لحظة مفصلية في علاقة إفريقيا بمؤسسة المحكمة الجنائية الدولية.

القرار لم يكن معزولاً أو طارئاً، بل جاء نتيجة لمسار طويل من الشكوك حول حياد المحكمة وصدقيتها، في وقت ازدادت فيه الانتقادات بأنها أداة تخدم مصالح القوى الكبرى بينما تستهدف قادة دول الجنوب، ولا سيما الأفارقة.

خلفية الانسحاب ودلالاته

في 23 سبتمبر 2025، أعلنت الدول الثلاثة، التي يقودها العسكريون منذ سلسلة انقلابات متتالية، انسحابها الفوري من نظام روما الأساسي، والبيانات الرسمية وصفت المحكمة بأنها “أداة قمع استعمارية جديدة”، وأكدت أن القرار يعكس رغبة الشعوب في استعادة السيطرة على السيادة القانونية، وتزامن الموقف مع توجه سياسي أوسع في الساحل الإفريقي للابتعاد عن الغرب وتعزيز العلاقات مع شركاء آخرين مثل روسيا.

لم يكن الانسحاب مجرّد إجراء قانوني تقني، بل تجسيد لتحوّل سياسي أوسع ورسالة جيوسياسية موجهة إلى النظام الدولي القائم، فهو يعكس بداية انتقال إفريقيا من موقع الخضوع إلى موقع الفاعل، حيث لم تعد القارة تقبل أن تُعامل كحقل تجارب قضائي أو ساحة اختبار لشرعية مؤسسات غربية تفتقر إلى الحياد.

هذا التحرك يندرج في سياق أوسع من صعود الجنوب العالمي، الذي يسعى إلى إعادة تعريف قواعد اللعبة الدولية، وإرساء “توازن جديد” يفرض حضوراً أكبر في صياغة المعايير بدل الاكتفاء بامتصاص نتائجها، فالانسحاب ليس إعلان إرادة سيادية فقط، بقدر ما هو قطيعة مع موروث استعماري مستمر بأدوات قانونية حديثة.

انتقادات المحكمة: من الانتقائية إلى ازدواجية المعايير

منذ تأسيسها عام 2002، لاحقت المحكمة الجنائية الدولية قادة وشخصيات سياسية في إفريقيا أكثر من أي قارة أخرى، ومن أصل 54 دعوى جنائية، وُجّهت 47 ضد أفارقة، وفق إحصاءات مستقلة، في المقابل، لم تتخذ المحكمة أي إجراء بحق مسؤولين أميركيين أو أوروبيين رغم الانتهاكات الموثقة في العراق وأفغانستان وليبيا، وهذه الانتقائية غذّت قناعة لدى العديد من الأفارقة بأن المحكمة تعمل وفق منطق “عدالة الأقوياء”.

دعمت هذا التصور أمثلة عديدة، فالمحكمة تجاهلت طلبات متكررة للتحقيق في جرائم ارتكبتها قوات الناتو، لكنها سارعت إلى إصدار مذكرات بحق الرئيس السوداني السابق عمر البشير والقذافي، في سياق بدا متسقاً مع أجندات القوى الغربية، وهذه الازدواجية جعلت الانسحاب خياراً مبرراً أمام الحكومات التي ترى نفسها مستهدفة بشكل غير عادل.

التفاعل الدولي: بين القلق والتأييد الضمني

رأت منظمات حقوقية مثل العفو الدولية في الانسحاب تراجعاً مقلقاً عن مبدأ مكافحة الإفلات من العقاب، فالمدير الإقليمي للمنظمة في غرب ووسط إفريقيا اعتبر القرار “إهانة للضحايا”، محذراً من حرمانهم من العدالة الدولية في المستقبل، أما بعض الحكومات الغربية فلم تُخفِ ارتباكها، خصوصاً مع تهديد واشنطن بفرض عقوبات على المحكمة نفسها بعد إصدارها مذكرات توقيف بحق مسؤولين إسرائيليين.

هذا التناقض كشف المفارقة الأساسية؛ فبينما تُندد الدول الغربية بالانسحاب الإفريقي وتصفه بضربة لمكافحة الجرائم الكبرى، فإنها في الوقت ذاته ترفض الخضوع لاختصاص المحكمة وتستخدم نفوذها السياسي والاقتصادي لإفراغها من مضمونها.

أبعاد الانسحاب القانونية والسياسية

قانونياً لن يصبح الانسحاب نافذاً إلا بعد مرور عام على إبلاغ الأمين العام للأمم المتحدة، وهذا يعني أن التحقيقات الجارية في مالي ستستمر، على الأقل في المرحلة الانتقالية، ولكن سياسياً، تحمل الخطوة بعداً رمزياً أكبر عبر إعلان قطيعة مع منظومة يعتبرها الأفارقة امتداداً للهيمنة الاستعمارية.

كما أعلنت الدول الثلاثة نيتها إنشاء محكمة جنائية خاصة بالساحل الإفريقي، في محاولة لتأكيد أنها لا تتنصل من العدالة بل تسعى إلى ممارستها ضمن إطار سيادي، وهذه الخطوة تعزز النقاش حول تطوير مؤسسات إقليمية بديلة تحل محل الآليات الدولية التي يسيطر عليها الغرب.

عملياً فإن الأدبيات النقدية للمحكمة تصفها بأنها نتاج بنية عالمية غير متكافئة، فالولايات المتحدة، رغم عدم مصادقتها على نظام روما، مارست ضغوطاً دائمة لتطويع المحكمة لخدمة مصالحها، وتبنّت واشنطن قوانين خاصة لحماية جنودها من أي ملاحقة، وهددت باستخدام القوة لمنع تسليم مواطنيها، وبريطانيا بدورها وفّرت غطاء مماثلاً لحلفائها.

النتيجة كانت نظاماً قضائياً يفتقر للحياد، فهو قادر على ملاحقة قادة من إفريقيا أو آسيا، لكنه عاجز أمام ملفات تتعلق بجرائم حرب غربية أو اسرائيلية، والانسحاب الإفريقي الأخير جاء ليؤكد هذا التشخيص، فالمحكمة لم تعد أداة للعدالة، بل جزء من شبكة أدوات سياسية تستخدمها القوى الكبرى لإعادة تشكيل النظام الدولي.

التداعيات على إفريقيا والساحة الدولية

انسحاب مالي والنيجر وبوركينا فاسو سيشجع دولاً أخرى في القارة على اتخاذ خطوات مماثلة، فجنوب إفريقيا وغامبيا سبق أن أعلنتا نية الانسحاب عام 2016 وتراجعت عن هذا الأمر لاحقاً، لكن في سياق صعود التوجهات السيادية المناهضة للغرب، تبدو فرص التوسع أكبر.

يحذر بعض الخبراء من أن الانسحاب سيخلق على المستوى الإقليمي “فراغا ًقانونياً”، فالمؤسسات القضائية المحلية تعاني من ضعف مزمن، وغياب بديل فعّال يؤدي إلى الإفلات من العقاب، إلا أن الرهان على آليات إقليمية جديدة، مثل المحكمة الجنائية للساحل، يعكس محاولة لتجاوز هذه المعضلة.

أما على المستوى الدولي فالقرار يعيد فتح النقاش حول مستقبل المحكمة نفسها، فإذا تزايدت الانسحابات، ستتحول المحكمة إلى مؤسسة منقوصة الشرعية، عاجزة عن أداء دورها الأصلي.

انسحاب ثلاث دول إفريقية من المحكمة الجنائية الدولية لن يكون حدثاً عابراً؛ لأنه تعبير عن أزمة أعمق في نظام العدالة الدولية، فالمحكمة التي أنشئت لمحاربة الجرائم الكبرى، فقدت ثقة جزء كبير من العالم بسبب انتقائيتها وتسييسها، ومع تزايد تحديات الجنوب العالمي للهيمنة الغربية، سيشكّل هذا الانسحاب نقطة انطلاق لإعادة التفكير في مؤسسات العدالة العالمية، وربما لابتكار بدائل إقليمية أكثر استقلالية وعدالة.

وكمثال واضح على عمل المحكمة الجنائية ففي 21 نوفمبر 2024، وبعد تحقيق حول جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في غزة، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف بحق مسؤولين إسرائيليين رفيعي المستوى، هما بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل، ويوآف غالانت وزير الاحتلال السابق، بتهم تتعلق باستخدام التجويع كوسيلة حرب، إلى جانب جرائم ضد الإنسانية تشمل القتل العمد والاضطهاد وأفعالاً لا إنسانية أخرى ارتُكبت خلال الحرب الفلسطينية – الإسرائيلية.

وشكّلت المذكرة الصادرة بحق نتنياهو سابقة، باعتبارها الأولى ضد رئيس حكومة لحليف رئيسي في العالم الغربي، ولكن هذه القرارات، رغم رمزيتها القانونية والسياسية، تُعد عديمة الجدوى من الناحية العملية، إذ تفتقر المحكمة إلى آليات إلزامية لتنفيذها، كما تُقابل عادةً بعدم جدية من جانب الدول الكبرى، التي تتعامل معها كإجراء شكلي أكثر منه التزاماً فعلياً.

إن ما حدث في الساحل الإفريقي ليس مجرد انسحاب من معاهدة، بل رسالة سياسية تقول بوضوح بأنه لم يعد ًمقبولاً أن تكون العدالة أداة بيد الأقوياء، فيما يُترك الضعفاء وحدهم في قفص الاتهام.

بقلم نضال الخضري

تقرير أممي يكشف تفاصيل نشاطات تنظيمي “داعش” و”القاعدة” في ليبيا

اقرأ المزيد