شكل انفصال جنوب السودان بداية لواقع سياسي مأزوم انتهى بحرب أهلية، ومع أن جذور هذا الاقتتال يعود إلى خمسينيات القرن الماضي، لكنه اليوم يحمل معه جذور تقسيم مختلفة فالصراع الذي اندلع في نيسان من العام الماضي كان انعكاسا لنزاعات قديمة بعضها بسبب التفاوتات الاقتصادية والإقصاء السياسي بين المركز والأطراف، والبعض الآخر بسبب الواقع الإقليمي للسودان الذي يتحكم بـمسار نهر النيل من جهة، ويجاور دولا تشكل كتلا قوية في القارة الإفريقية، والتوتر السياسي الذي بلغ أقصاه في الاقتتال الحالي يوضح أن مسألة تقسيم السودان تتبع أجندة من المصالح المتشابكة، والتصور القائم اليوم هو إيجاد ثلاث دول، دولة في الشرق تضم أقاليم الشرق والوسط والشمال، ودولة في جنوب كردفان، ودولة في دارفور.
هذه التصورات للتقسيم التي ينسب بعضها إلى قوات “الدعم السريع” بالتعاون مع “قوى إعلان الحرية والتغيير”، تقوم على أساس جغرافي وتفتح مساحات لأزمات جديدة، فكل إقليم يحمل معه توترات إثنية مختلفة، وبشكل يهدد عددا من الدول الإفريقية التي لم تحاول لعب دور واضح لإيقاف هذا التهديد، وبقيت دون أي تأثير عندما انفصل الجنوب، وفتح الباب أمام احتمالات تصاعد التوتر على طول حوض النيل.
عمليا فإن السودان دخل في نزاع دام خلف أزمة إنسانية خطيرة، ومواجهات قوات الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان ضد قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو خلفت دمارا كبيرا، حيث تحاول الأمم المتحدة ومنظماتها، بما في ذلك اليونيسف، التعامل مع العواقب الإنسانية للصراع، وتحاول التركيز على الأطفال الذين يعانون بشكل خاص من سوء التغذية والنزوح، وتسعى اليونيسف لجمع 840 مليون دولار لمساعدة أكثر من 7.5 مليون طفل، وهو ما جعل الأمين العام للأمم المتحدة، غوتيريش، يصف الوضع في السودان بأنه “مروع”.
أدى النزاع أيضا إلى أكبر أزمة نزوح في العالم حيث طالت ما يقرب من 6 ملايين شخص ومغادرة نحو مليوني شخص البلاد إلى دول الجوار، وترافق هذا الأمر مع تدمير البنية التحتية والممتلكات، حيث أعلنت الأمم المتحدة أعلنت عن حاجتها لـ4.1 مليار دولار في 2024 لتوفير المساعدة الإنسانية للسودان وللاجئين في الدول المجاورة.
على المستوى السياسي الداخلي فإن طرفا النزاع وافقا على عقد اجتماع في سويسرا لبحث إيصال المساعدات الإنسانية، في ظل تأكيد الجيش على التنسيق العالي والتزام القوات المسلحة بتحقيق النصر، فقائد الجيش عبد الفتاح البرهان يؤكد على وحدة الجيش والشعب ضد قوات الدعم السريع، وينفي كل الاتهامات بحدوث الانقلاب في أم درمان، وتطرح التصريحات الصادرة عنه التزامه برعاية أسر الضحايا وعلاج الجرحى، كما يوضح البرهان أن الحلول الخارجية للصراع لن تكون دائمة وأن استقلالية القرار السوداني حاسم في مواجهة الأزمة.
على المستوى الإقليمي والدولي فإن الصراع السوداني أصبح مساحة لاهتمام دول جوار السودان بالدرجة الأولى، حيث تسعى مصر لضمان استقرار السودان بسبب القرب الجغرافي والمصالح المشتركة في حوض النيل، وهي تلعب دورا في كل عمليات الوساطة لوقف النزاع للحد من تداعيات الحرب الأهلية، بما في ذلك تدفق اللاجئين والتأثير على الأمن المائي، بينما تظهر إثيوبيا قلقا من امتداد الصراع وتأثيره على الاستقرار الإقليمي، خاصة في ظل التوترات حول منطقة الفشقة وسد النهضة، وضمن مجال السودان العربي فإن التعامل يبدو مقتصرا على السعودية والإمارات، فالدولتين لعبتا دورا في دعم قوات الدعم السريع ماليا وعسكريا، وذلك بسبب مشاركة هذه القوات في التحالف باليمن، بحجة مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة.
على المستوى الدولي فإن الولايات المتحدة اكتفت بالتعبير عن قلقها داعية لوقف العنف، وأعلنت أنها تدرس فرض عقوبات على أطراف الصراع، لكنها وفي ظروف الحرب الأوكرانية إضافة لما استجد في حرب غزة فإن تأثيرها في السودان يبقى محدودا، وفي المقابل فإن روسيا تركز في الأزمة على تعاونها مع السودان في الدعم العسكري والتدريب للجيش، وأثارت زيارة قائد الدعم السريع إلى موسكو تكهنات حول تعميق التعاون، بينما حمل السفير الروسي في الخرطوم أندريه تشيرنوفول الغرب جزءاً من المسؤولية عن الحرب، داعياً لوقف إطلاق النار وإجراء مفاوضات، وتأتي المواقف الروسي في وقت لم يكمل فيه السودان إجراءات التصديق على اتفاقية قاعدة بحرية روسية في بورتسودان.
ينقل المشهد السوداني حالة تتجاوز المسائل الإنسانية الخطيرة التي خلفتها الحرب، فهو يعكس عدم قدرة الدول الإفريقية على التدخل في أزمات يمكن أن تنتقل إلى باقي دول القارة، فالاهتمام الدولي بهذه الأزمة في أدنى مستوى ممكن وذلك في ظل انقسام عالمي يقيد وبشكل خطير من قدرة النظام الدولي على التأثير في الأزمة السودانية أو غيرها من الصراعات في العالم.
بقلم مازن بلال
قمة أكرا.. تعزيز التعاون الإفريقي وتعميق العلاقات الثنائية بين الدول الأعضاء