اكتسب يوم التاسع من مايو 2025 سمة استراتيجية، فعندما تحيي روسيا الذكرى الثمانين لانتصارها في “الحرب الوطنية العظمى”، فإنها تمارس تقليداً وطنياً، وفي نفس الوقت تؤكد على السلم الدولي وموقع روسيا داخل النظام العالمي.
يوم النصر لا يقف فقط في استدعاء تاريخ الصمود في وجه النازية، بل كحدث أعاد رسم التوازن الدولي، وأبعد شبح الحروب الشاملة التي عانى منها العالم في بداية القرن العشرين، فالقوة الروسية لم تكن فقط حالة عسكرية بل أيضاً قدرة أخلاقية فرضت حالة خاصة داخل عالم متحول.
الاحتفال هذه السنة يأتي في ظل عملية عسكرية مستمرة في أوكرانيا، وعقوبات غربية متصاعدة، ومحاولات روسية ممنهجة لتوسيع دوائر تحالفاتها بعيداً عن الغرب، وهذا المسار ليس جديداً بالنسبة لموسكو، فمنذ الانتصار على النازية سعت روسيا إلى بناء رؤية لعالم أكثر استقراراً، ونظاماً دولياً لا تحتكر قوة واحدة السيطرة عليه على حساب باقي الشعوب.
التاريخ كأداة للشرعية والتأثير
في الذاكرة الروسية، يوم النصر لا يُمثل مجرد مناسبة وطنية، بل يُعد حجر أساس للهوية السياسية المعاصرة،فأكثر من 27 مليون ضحية سوفييتية سقطوا في الحرب، ما يجعل هذه الذكرى ركيزة وجدانية تفرض نفسها لتوحيد الداخل ولدعم السياسات الراهنة لضمان أمنها والسلام الدولي، وفي وقت تعيش فيه روسيا ضغوطاً غير مسبوقة خصوصاً على المستوى الأوروبي، فإن موسكو ترى هذه الذكرى إيماناً بقدرتها على الصمود والانتصار كما فعلت في 1945.
عملياً فإن الاحتفالات الرسمية شملت العرض العسكري في الساحة الحمراء، حيث تم استعراض أحدث الأسلحة الاستراتيجية، بما فيها صواريخ “سارمات” و”أفانغارد”، كرسالة مباشرة للغرب على أن قدرة الردع أساسية، وأن روسيا لم تفقد قدراتها رغم الحصار، ومحاولات الغرب افتعال الأزمات للتأثير على الأمن الروسي، ومسيرات “الفوج الخالد”، حيث خرج المواطنون حاملين صور أجدادهم ممن خاضوا الحرب، لتجسد ارتباط الذاكرة الشعبية بالسردية التاريخية التي أصبحت جزء من الثقافة الروسية.
كما زُينت المدن بالأعلام والزهور، وعُزفت الأغاني الوطنية القديمة، وتم إضاءة كافة المعالم في موسكو، ما يحوّل الاحتفال إلى مشهد بصري موحد للهوية القومية الروسية.
مشاركة دولية واسعة
رغم محاولة الغرب فرض عزلة على روسيا، لكن الصورة عبر الاحتفالات هذا العام بددت الأوهام بالقدرة على عزل موسكو، حيث نجحت الدبلوماسية الروسية في إظهار صورة مختلفة يُعبر عنها الحضور السياسي الرفيع، ما يعكس استمرار قدرتها على بناء تحالفات بديلة، وتؤكد أيضاً على التوازن الاستراتيجي المرسوم خصوصاً مع مشاركة الصين عبر الرئيس شي جين بينغ الذي يزور موسكو من 7 إلى 10 مايو، ما يشكل تأكيداً على عمق التحالف الاستراتيجي بين البلدين في مواجهة الضغط الغربي.
في المقابل، فإن باقي المشاركين ينقلون صورة عن العالم الجديد الذي يقوم على استراتيجية لا تُبنى على الاحتكار إنما على رسم العلاقات الدولية بشكل يضمن مصالح الجميع، فالمشاركة البرازيلية تؤشر على تعزيز العلاقات داخل دول “البريكس”، وحضور الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش رغم تحذيرات الاتحاد الأوروبي، تأكيد عن عمق العلاقات الروسية-الصربية.
المشاركة العربية أتت من مصر وليبيا بحضور الرئيس عبد الفتاح السيسي، والقائد العام للقوات المسلحة العربية الليبية المشير خليفة حفتر مع وفد عسكري، وهو ما يؤكد تعزيز التعاون الثنائي في مجالات الاقتصاد والطاقة والدفاع، كما شارك الرئيس الفلسطيني محمود عباس، في دلالة على دعم موسكو للقضية الفلسطينية، أما من آسيا الوسطى فإن حضور رؤساء أذربيجان، كازاخستان، قيرغيزستان، أوزبكستان، وطاجيكستان، يعكس استمرار قوة العلاقات الروسية في فضائها التقليدي.
بالنسبة الاتحاد الأوروبي فإن رئيس وزراء سلوفاكيا، روبرت فيتسو، كان الممثل الوحيد من التكتل الأوروبي، ما يُظهر الانقسامات داخل الاتحاد حيال العلاقة مع موسكو.
مشاركة عسكرية دولية: 19 دولة في العرض
في بعدٌ غير مسبوق، تم توجيه دعوات لوحدات عسكرية من 19 دولة للمشاركة في العرض العسكري، فكان حضور قوات من الصين وفيتنام ليمنح الحدث مجالاً دولياً، ويظهر أن موسكو قادرة على استقطاب دعم رمزي حتى في زمن العقوبات والعزلة.
عملياً، فإن الكرملين يتعامل مع الذكرى الثمانين كمنصة لإعادة تأكيد حضوره العالمي، إذ تعمل موسكو على تمتين شراكاتها مع دول الجنوب العالمي (الصين، البرازيل، الهند، جنوب إفريقيا)، فضلاً عن دول الشرق الأوسط وإفريقيا، لتشكيل توازن جديد في مواجهة الهيمنة الغربية.
كما أن رمزية الانتصار على النازية تُعاد صياغتها في خطاب القيادة الروسية للتحذير من أن التوجهات الغربية الحالية تقود إلى خطر مواجهات أوسع تذكر بالحرب العالمية الثانية.
احتفال 9 مايو 2025 ليس مجرد عرض عسكري ولا مناسبة قومية، بل لحظة استراتيجية تطرح فيها روسيا رموز القوة والتاريخ بهدف خلق رؤيا لأمنها القومي وسط مفهوم السلم في النظام الدولي، ففي زمن تتغير فيه التوازنات، تسعى موسكو إلى تقديم نفسها كفاعل مستقل، قادر على مقاومة الضغوط الغربية، وبناء تحالفات بديلة تعكس ملامح نظام عالمي جديد.
بقلم: نضال الخضري
الأمن الداخلي بطرابلس يعلن إحباط مخطط احتيال دولي استهدف الليبيين