حين يُذكر جهاز “الموساد” الإسرائيلي، يقفز إلى الذهن تلقائياً صور العملاء السريين، والعمليات النوعية في العواصم الأوروبية، والصراع الأمني الخفي مع طهران وحلفائها، لكن الواقع الأعمق خصوصاً في القارة الإفريقية بات أكثر تعقيداً مما يصوره الإعلام.
نحن أمام تحوّل نوعي في أدوات التجسس وبناء النفوذ، ولم تعد الحقيبة السوداء هي الأداة الرئيسية، بل حقيبة الإغاثة، وشبكات المساعدات المدنية، ومنظمات الشباب، وحتى إذاعات القرى، وهذا التحوّل الذي يسميه بعض المحللين “الهندسة السكانية”، لا يتعلق فقط بجمع معلومات، بل بإعادة تشكيل البنى الاجتماعية والسياسية من الداخل، ضمن خطة طويلة الأمد تبدأ بالمياه والدواء، وتنتهي بالولاء والاستخدام الاستخباراتي.
الواجهة المدنية: تغطية ناعمة لأهداف صلبة
في دول مثل إثيوبيا وكينيا وجنوب السودان، كثّف الموساد نشاطه عبر واجهات مدنية وإنسانية، فهناك منظمات صحية وتعليمية، وفرق تقدم خدمات المياه والصحة الإنجابية، وأخرى تدعم “تمكين الشباب”، لكن التحقيقات الاستخباراتية وتقارير صادرة عن جهات أمنية إفريقية كشفت أن العديد من هذه المشاريع ممول مباشرة أو غير مباشرة من جهات مرتبطة بالموساد، أو بشركات إسرائيلية على علاقة وثيقة بالجهاز.
الهدف ليس فقط “تبييض” صورة إسرائيل، بل إقامة شبكة تأثير تعتمد على بناء الثقة الشعبية، ومن خلالها يتم جمع معلومات حساسة عن مكونات المجتمع، مثل القيادات المحلية، والشخصيات النافذة، والبيئة الاقتصادية في الأرياف النائية، وهذا ما وصفته وثائق استخباراتية من جنوب إفريقيا بـ”وهم الإغاثة” من خلال مشاريع ظاهرها الرحمة وباطنها تجسس ممنهج.
تفكيك المجتمع من الداخل: الأقلّيات كبوابة
الموساد لا يتحرك في الفراغ، بل يستغل البنية الهشة للمجتمعات الإفريقية، وخصوصا انقسامها العرقي والديني، لبناء قنوات اختراق دقيقة، وإحدى الاستراتيجيات الأكثر فاعلية هي استهداف الأقليات، فعلى سبيل المثال، اليهود الإثيوبيون (الفلاشا) يتم تدريب بعض أفرادهم في إسرائيل ثم إعادتهم كجزء من مشاريع تعاون مدني، لكنهم يحملون في حقيبتهم أيضا أجندات أمنية.
الفكرة هنا ليست جديدة، لكنها تطورت، فعوضاً عن إرسال عملاء أجانب، يتم زرع “وكلاء محليين” من رحم المجتمعات نفسها، وهؤلاء لديهم القدرة على الوصول إلى رجال الدين، وقادة القبائل، والمسؤولين المحليين دون إثارة الشكوك، ما يمنح الموساد نافذة لا تقدر بثمن لفهم بنية السلطة والنفوذ في تلك المناطق.
الصحة والمياه: عين التجسس في قنوات الشراكة
إحدى أكثر الواجهات حساسية هي المشاريع الصحية والمائية، فهناك شركات إسرائيلية غير حكومية تنفذ مشروعات ضخمة لتوفير آبار مياه وأدوية، خاصة في مناطق نائية أو منكوبة، لكن هذه العمليات، بحسب تقارير أمنية متقاطعة، غالباً ما تُستخدم كغطاء لنشر تقنيات مراقبة، أو زرع أفراد لجمع بيانات دقيقة عن التجمعات البشرية وأنماط تحرك السكان.
بعض الدراسات الأكاديمية تحذر من أن “المساعدات غير الشفافة”، حين تتداخل مع أجندات أمنية، تتحول إلى أدوات اختراق ناعمة يصعب اكتشافها، لكنها تؤسس لبنية تجسسية مزروعة بعمق داخل المجتمعات.
الهجرة والترحيل: تعديل ديموغرافي من خلف الكواليس
في تحرك غير مسبوق، كشفت تسريبات عن جهود إسرائيلية لإقناع دول إفريقية باستقبال لاجئين فلسطينيين، خاصة من قطاع غزة، في دول مثل الكونغو، وأوغندا، ورواندا، والشعار المرفوع هو “التعاون الإنساني”، لكن المضمون الحقيقي يحمل بعداً استراتيجياً عميقاً، فمحاولة لتفريغ غزة ديموغرافياً ضمن سياسة “الهندسة السكانية” التي تتقاطع مع أهداف الموساد.
هذه الخطط، التي يُقال إن الموساد شارك في صياغتها وتنفيذها عبر قنوات غير رسمية، توظف أدوات ضغط اقتصادية وسياسية على بعض الحكومات الإفريقية، مقابل امتيازات استثمارية أو عسكرية.
التأثير الرمزي والإعلامي: بناء سرديات جديدة
إحدى الجبهات الأخطر التي لا تُناقش بما يكفي هي الاختراق الرمزي، وذلك عبر إذاعات محلية تديرها شركات إسرائيلية باللغة السواحلية أو الفرنسية، مع محتوى صحفي مموّل في صحف ناطقة بالعربية أو الإنجليزية تمجد إسرائيل، وتدير حملات على شبكات التواصل تهاجم حركات المقاومة الفلسطينية وتسوّق لروايات “التعايش والسلام”.
ونقلت تقارير متعددة عن قيام شركات إسرائيلية متخصصة بـ”الحرب النفسية” بصياغة محتوى ناعم يزرع الأفكار لا الأخبار، ويركز على إعادة تشكيل وعي القارئ الإفريقي بما يخدم مصالح تل أبيب، وأدى ضعف الرقابة الإعلامية، وانشغال الحكومات المحلية بقضايا الأمن الداخلي، لجعل هذه السرديات واقعاً نافذاً يصعب مقاومته.
الارتداد: كيف تواجه إفريقيا هذا الاختراق؟
مع تزايد وعي الحكومات الإفريقية، بدأت تظهر مؤشرات رد فعل واضحة، حيث ظهرت ردود أفعال سياسية واضحة تجاه نشاط الموساد منها:
- الطرد الدبلوماسي أو سحب التراخيص، وحصل في أكثر من دولة عند اكتشاف أنشطة تجسسية تحت غطاء مدني.
- حملات إعلامية مضادة أطلقتها منظمات إفريقية غير حكومية، لكشف ما يُسمى “الاستعمار المدني الجديد”.
- رفض التمويلات الغامضة، فبعض الدول باتت تفرض رقابة صارمة على المنظمات الممولة من الخارج، وتطلب شفافية تامة في مصادر التمويل.
لكن هذا الرد لا يزال غير موحد، ومحدود في تأثيره، نظراً لحاجة بعض الدول إلى تلك المساعدات، وضعف البدائل التمويلية المستقلة.
ما نشهده اليوم هو نموذج جديد من العمل الاستخباراتي، لا يعتمد على الأساليب التقليدية، بل على “الذكاء الاجتماعي” طويل الأمد، والموساد لا يزرع عملاء فقط، بل يُنشئ بنى تحتية من التأثير داخل نسيج المجتمع الإفريقي، بأدوات رمزية ومدنية وصحية تبدو غير ضارة، لكنها تعبر بالعمق.
لكن حين تنكشف الأجندات، يصبح الثمن باهظا من خلال انهيار الثقة، وتهديد السيادة، وخلق فجوات يصعب سدّها لاحقا.
بقلم نضال الخضري
مواضيع متعلقة:
ذراع إسرائيل الطويلة: الموساد وشبكات الأمن في إفريقيا (1)
حرب الظل في إفريقيا: الموساد وفيلق القدس في ساحة الصراع المنسية (2)
الدبلوماسية السوداء: الموساد، الصين، والتطبيع الخفي في القارة السمراء (3)
لواء مصري يرد على أنباء هجوم إسرائيلي بالقرب من الحدود المصرية