كشفت الحلقات السابقة من هذا التحقيق عن العمليات السرية والحروب الاستخباراتية بين الموساد وفيلق القدس الإيراني، وهذه الحلقة تُسلّط الضوء على جانب أكثر خفاء لكنه لا يقل خطورة: استخدام جهاز الموساد كأداة دبلوماسية غير رسمية لإسرائيل، وكسلاح اقتصادي واستخباراتي في القارة الإفريقية.
وراء الستار، يتجاوز الموساد وظيفته كجهاز استخبارات تقليدي إلى دور المحرّك الدبلوماسي والتجاري واللوجستي لمشاريع إسرائيلية تمتد من الساحل إلى القرن الإفريقي، فهو الوجه الخفي لدبلوماسية الظل التي تمارسها تل أبيب عبر أدوات تبدو تنموية، لكنها في حقيقتها هندسة استراتيجية جديدة للقوة والنفوذ.
الموساد كقناة دبلوماسية خلفية
اعتمدت إسرائيل بشكل متكرر على الموساد لفتح الأبواب المغلقة في عواصم لا تقيم علاقات رسمية معها، ومن خلاله، تم تمهيد الطريق لإعادة العلاقات مع تشاد عام 2019، بعد قطيعة دامت عقوداً، وكشفت الصحيفة الفرنسية “إنتليجنس أونلاين” أن مدير الموساد دافيد برنيع قاد مفاوضات سرية مع المخابرات التشادية، بهدف إقناع محمد موسى فقي، رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي، بمنح إسرائيل صفة مراقب داخل الاتحاد.
في السودان أيضاً قاد الموساد مفاوضات مع قادة عسكريين وأمنيين لتمهيد الطريق للتطبيع الرسمي عام 2020، أما في المغرب فلعب الموساد دوراً في تأمين اتفاقيات أمنية حساسة في خلفية التطبيع، مقابل اعتراف الولايات المتحدة بسيادة الرباط على الصحراء الغربية.
عملياً، لا يعمل الموساد فقط كجهاز أمني، بل كبوابة عبور للدبلوماسية غير الرسمية، حيث يتجاوز البيروقراطية التقليدية ويوظف العلاقات السرية والشبكات الاستخباراتية لفرض واقع جديد على العلاقات الإفريقية-الإسرائيلية.
التغلغل عبر واجهات تجارية وتنموية
من أبرز أدوات الموساد في إفريقيا استخدام واجهات تنموية وتجارية لجمع المعلومات وتثبيت النفوذ،فشركات مثل “MASHAV”، التي تُسوّق نفسها على أنها ذراع مساعدات دولية، تعمل فعليا كبوابة لتجنيد العملاء وبناء شبكات نفوذ داخل المؤسسات الحكومية الإفريقية.
كما أن معهد الجليل للإدارة الدولية، رغم صيغته الأكاديمية، يستقطب مئات المسؤولين الأفارقة في برامج تدريبية تتعدى الإدارة إلى الجوانب الأمنية والعسكرية، وتؤكد تقارير إعلامية أن معظم الحكومات الإفريقية تضم على الأقل مسؤولاً تخرج من هذا المعهد، وهو ما يتيح لإسرائيل قاعدة تأثير طويلة المدى، فالموساد يستغل هذه الواجهات لتمرير معدات مراقبة، وتدريب كوادر استخباراتية محلية، وإنشاء شبكات تجسس تحت غطاء التنمية البشرية أو تحسين البنية التحتية.
مواجهة النفوذ الصيني: حرب باردة بنكهة تنموية
في السنوات الأخيرة أصبحت إفريقيا ساحة تنافس متصاعدة بين الصين وإسرائيل. فبكين، التي توسع نشاطها في القارة عبر مشاريع البنية التحتية والموارد الطبيعية، أثارت قلقاً متزايداً لدى الموساد، الذي بدأ بمتابعة الشركات الصينية والضغط على بعض الحكومات لعرقلة مشاريعها.
وبحسب تحقيقات لموقع “The Times of Israel”قامت إسرائيل بمراقبة مشاريع صينية في مجالات الطاقة والاتصالات والسكك الحديدية في دول مثل كينيا وأنغولا ورواندا، فهي تخشى من أن تستغل الصين هذه البنى التحتية للتجسس أو تعزيز نفوذها العسكري، وهو ما يدفع الموساد للتدخل عبر واجهات مدنية أو أمنية لتقويض بعض هذه المشاريع.
وتسعى إسرائيل أيضاً إلى تقديم بدائل تكنولوجية في مجالات مثل تحلية المياه والزراعة الذكية وأمن المعلومات، مستغلةً التفوق التقني الإسرائيلي وتقديمه كبديل آمن للحكومات الإفريقية.
حماية الاستثمارات الإسرائيلية في الزراعة والطاقة والتقنية
تحوّلت إفريقيا إلى وجهة مفضلة للشركات الإسرائيلية في مجالات الزراعة والمياه والطاقة المتجددة، لكن هذه الاستثمارات لا تتم بمعزل عن الدعم الاستخباراتي، فالموساد يتولى مراقبة بيئة الأعمال ورصد التهديدات المحتملة وتوفير معلومات استباقية لحماية هذه المشاريع.
تعمل شركات إسرائيلية على تطوير مشاريع ري في كينيا، ومزارع طاقة شمسية في إثيوبيا، فضلاً عن شركات تقنية ناشئة في غانا ورواندا، والمساعدات التنموية المعلنة تكون غالباً واجهة لعمليات رصد وتجسس، خاصةً عندما يتعلق الأمر بتكنولوجيا حساسة أو مناطق فيها نشاط صيني أو إيراني.
إفريقيا كمنصة جيواستراتيجية بديلة
تحوّلت إفريقيا، في العقيدة الأمنية الإسرائيلية، من مجرد هامش جغرافي إلى منصة استراتيجية بديلة، وذلك مع تراجع نفوذ إسرائيل في بعض مناطق الشرق الأوسط، حيث تسعى تل أبيب إلى تثبيت موطئ قدم دائم في القرن الإفريقي والساحل وغرب القارة، لضمان عمق جيوسياسي يمكن استخدامه للضغط أو الحماية.
تُدار مشاريع إسرائيلية ذات بعد استراتيجي في تشاد وإثيوبيا وأوغندا وحتى غينيا، تشمل قواعد مراقبة ومنشآت لوجستية وقواعد للطائرات دون طيار، كما أن الموقع الجغرافي لهذه الدول يجعلها مفيدة لمراقبة ليبيا، السودان، وحتى مصر.
يُضاف إلى ذلك بُعد دبلوماسي مهم، فالكتلة الإفريقية في الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان هي هدف لإسرائيل، حيث تسعى لتقليص التضامن الإفريقي التقليدي مع فلسطين، عبر دعم أمني وتقني للأنظمة القائمة، ما يدفعها إلى اتخاذ مواقف سياسية أقل عدائية لتل أبيب.
نشاط الموساد في إفريقيا لا يقتصر على التجسس أو العمليات الخاصة، بل يشمل إدارة علاقات استراتيجية مع أنظمة سياسية، والتحكم بمسارات اقتصادية، وتوظيف أدوات ناعمة لتثبيت حضور دائم، فهو يستخدم دبلوماسية سوداء، لا تمر عبر السفارات، بل عبر غرف العمليات والشركات والمعاهد التنموية.
وفيما تستمر الصين وروسيا في تعزيز وجودهما في القارة، تواجه إسرائيل تحدياً مزدوجاً: الحفاظ على تفوقها الأمني من جهة، وضمان عدم تحول القارة إلى منصة معادية.
الموساد في إفريقيا أكثر من جهاز استخبارات لأنه مهندس العلاقات، وضامن المصالح، وصانع النفوذ في قارة تتغيّر بسرعة، لكنها لا تنسى من يحفر في عمقها بلا ضوء.
بقلم: نضال الخضري
مواضيع متعلقة:
ذراع إسرائيل الطويلة: الموساد وشبكات الأمن في إفريقيا (1)
حرب الظل في إفريقيا: الموساد وفيلق القدس في ساحة الصراع المنسية (2)
إثيوبيا تعلن “إنجاز العمل” في سد النهضة ويدعو مصر والسودان للاحتفال