26 مارس 2025

تزيد التوترات الاقتصادية في ليبيا من المخاوف حول حجم الإنفاق الحكومي على الرواتب الذي سيتجاوز حاجز الـ100 مليار دينار ليبي العام المقبل، فهو مؤشر على الفساد والاعتماد شبه الكلي على عائدات النفط حسب الخبراء الاقتصاديين.

تكشف البيانات الرسمية عن وجود 2.5 مليون موظف في القطاع العام الليبي، ويعادل هذا الرقم 31% من إجمالي السكان، ويشير ذلك إلى تضخم غير مسبوق في الجهاز الإداري، حيث تشكل مخصصات الرواتب نحو 54% من إجمالي الإنفاق العام، ويضع عبئاً هائلاً على الميزانية العامة للدولة، وذلك في ظل ضعف الإنتاجية والموارد الاقتصادية الأخرى، وهذه النسب مرتفعة جداً مقارنة بالمعدلات العالمية، وتشير إلى أن الحكومة تصرف جزءاً كبيراً من ميزانيتها على الرواتب، ما يقلل من قدرتها على الاستثمار في البنية التحتية والصحة والتعليم.

هذا التضخم في أعداد الموظفين يعود إلى “التوظيف العشوائي” الذي لا يستند إلى حاجة فعلية لسوق العمل، بل يرتبط بمصالح سياسية تهدف إلى كسب الولاءات واستمرار هذا النهج دون إصلاحات جذرية سيؤدي إلى تفاقم العجز المالي وارتفاع معدلات التضخم، ما يهدد الاقتصاد الوطني بشكل خطير، ويوضح الرسم التالي الخلل الاقتصادي في نسبة الرواتب من إجمالي الإنفاق العام

جدل حول وصول الرواتب إلى 100 مليار دينار

أثارت توقعات وزير المالية في حكومة عبد الحميد الدبيبة المنتهية الولاية، خالد المبروك، بشأن ارتفاع بند الرواتب إلى 100 مليار دينار، استغراب الخبراء الاقتصاديين فاعتبرها البعض غير واقعية، في المقابل، أشار بعض المحللين إلى أن هذه التقديرات تشكل “تمهيداً” لفرض إجراءات تقشفية جديدة أو فرض ضرائب على المواطنين.

عملياً، إذا كان متوسط رواتب العاملين في القطاع الحكومي 1900 دينار ليبي شهرياً، فإن زيادة الرواتب إلى 100 مليار تعني إما زيادة ضخمة في الأجور أو توظيف أكثر من 1.7 مليون موظف جديدخلال عام واحد، وهو ما يبدو مستحيلاً في ظل الظروف الاقتصادية الحالية، على الأخص في ظل اعتماد ليبيا بشكل شبه كلي على عائدات النفط، حيث يشكل أكثر من 90% من دخل الدولة، لكن غياب الشفافية والإدارة الفعالة أدى إلى هدر الموارد وسوء توجيهها،ورغم أن إنتاج النفط وصل إلى 1.4 مليون برميل يومياً، إلا أن الفوائد الاقتصادية لم تنعكس على المواطن، بل إن تأخر صرف الرواتب أصبح ظاهرة متكررة.

ويعود جزء كبير من الأزمة المالية إلى سوء إدارة الموارد النفطية، حيث أشارت تقارير إلى أن ليبيا فقدت مليارات الدولارات بسبب تهريب النفط والفساد الإداري، وهو ما دفع بعض الشركات العالمية مثل كونكو فيليبس إلى رفض الاستثمار في البلاد بسبب ارتفاع أسعار العقود الموقعة من قبل الحكومة الليبية إلى 12 ضعف الأسعار العالمية.

ترامب وأسعار النفط تحدٍ جديد لليبيا

إحدى المخاوف الكبرى التي تواجه ليبيا هي توقعات بانخفاض أسعار النفط عالمياًبسبب سياسات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي أعلن قبل انتخابه عن نيته زيادة إنتاج النفط الأمريكي، وطلب بعد انتخابه أيضا من السعودية رفع إنتاجها، وفي حال زيادة العرض على النفط فإن تراجع الأسعار في الأسواق العالمية ستضع ليبيا وضع مالي صعب، حيث ستتراجع عائداتها النفطية، ما يزيد من عجزها في دفع الرواتب.

إضافة لسياسات ترامب فإن العديد من الخبراء متفقون على أن المشكلة لا تكمن فقط في ارتفاع الرواتب، بل في الفساد المالي المستشري، داخل المؤسسات الحكومية، وتشير التقارير إلى أن نسبة الوظائف الوهمية تتجاوز 30% من إجمالي الموظفين المسجلين، حيث يحصل الكثيرون على رواتب من دون أداء أي عمل فعلي.

كما تعاني الحكومة من نقص في الرقابة على الصفقات والعقود الحكومية، ما يسمح بحدوث تجاوزات مالية كبيرة، على سبيل المثال، تم الكشف عن “فضائح فساد” تتعلق بمشاريع غير منفذة، مثل عقود شراء معدات طبية بمبالغ مضاعفة، فضلاً عن تهريب الأموال العامة إلى الخارج، وتوضح مذكرة التفاهم التي أبرمتها حكومة الدبيبة مع تركيا؛ ومنحتها امتيازات في التنقيب عن النفط والغاز في المياه الليبية، غياب الرقابة لحساب المصالح الخاصة، واعتبرها البعض محاولة لتمكين النفوذ التركي على حساب المصلحة الوطنية، في المقابل فإن الولايات المتحدة يمكن أن تنسحب بالتدريج من ليبيا حسب بعض التقارير بسبب انتشار الفساد وعجز الحكومة عن توفير بيئة استثمارية آمنة.

الاقتراض الداخلي.. خطر جديد على الاقتصاد

مع تزايد العجز المالي، تلجأ الحكومة إلى الاقتراض الداخليمن مصرف ليبيا المركزي، وهو ما يؤدي إلى زيادة عرض الدينار الليبي في السوق، وبالتالي تفاقم التضخم فهذه السياسة تعني أن القوة الشرائية للدينار ستنخفض، ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وزيادة معاناة المواطن الليبي.

أمام هذه التحديات، يتطلب الوضع إصلاحات جذريةلإنقاذ الاقتصاد الليبي عبر إعادة هيكلة القطاع العاملخفض العمالة غير المنتجة وتقليل الضغط على الميزانية، وهناك حاجة أيضاً لتعزيز الشفافية ومكافحة الفساد عبر الأجهزة الرقابية وإصدار قوانين تمنع التعيينات الوهمية.

تحتاج ليبيا لتنويع مصادر الدخلعبر تطوير القطاعات غير النفطية، وإصلاح قطاع النفطمن خلال إبرام عقود شفافة مع الشركات الدولية وضمان حسن استغلال العائدات، وضبط الإنفاق الحكوميمن خلال مراجعة السياسات المالية ووقف الهدر في المشاريع غير الضرورية.

سواء بلغت الرواتب 67 ملياراً أو 100 مليار دينار، فإن المشكلة الأساسية ليست في الأرقام بحد ذاتها، بل في سوء الإدارة والفساد، واستمرار التوظيف العشوائي والإنفاق غير المنضبط سيؤدي إلى انهيار مالي، وذلك في حال لم تتخذ السلطات إجراءات فورية للإصلاح لمواجهة الضغوط الاقتصادية، ففي ظل نظام اقتصادي يعاني من الفساد، وسوء التخطيط، والاعتماد الكلي على النفط، دون رؤية واضحة للمستقبل، فإن التحديات ستزداد أمام المواطن الليبي وسيواجه مستقبلاً مجهولاً.

بقلم نضال الخضري

خلافات سياسية تعمّق الجمود في ليبيا مع انتخاب رئيس جديد لمجلس الدولة

اقرأ المزيد