في تحول دراماتيكي في مجلس الأمن استخدمت روسيا في 18 نوفمبر 2024، حق النقض لمنع قرار بهدف وقف العنف في السودان، في خطوة أثارت الأسئلة رحب الجيش السوداني بالإجراء الروسي وسط استنكار دولي.
سياق القرار حسب ما تناولته وسائل الإعلام يحمل سمة إنسانية عامة، حيث دعا إلى وقف فوري لإطلاق النار بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، إضافة لتدابير تضمن حماية المدنيين مع ضمان تسليم المساعدات الإنسانية، مع تصويت 14 من أصل 15 عضوا في المجلس لصالح القرار، ووقفت روسيا وحدها في المعارضة، وذلك ضمن خطوة بدت خارج الإجماع الدولي، إلا أن خبرة الدبلوماسية الروسية في هذه المسائل كانت وراء هذا القرار الذي يحوي في تفاصيل بنوده “الإنسانية” هامشا واسعا للتدخل الخارجي.
ماذا اقترح القرار؟
لا تحمل الاقتراحات العامة للقرار الذي شاركت في رعايته بريطانيا وسيراليون، أي جديد في الموقف الدولي، فهو يدعو لوقف إطلاق النار، وصول منظمات الإغاثة دون عوائق إلى المناطق المتضررة، وحماية المدنيين إضافة لإعادة التأكيد على حظر الأسلحة المفروض على منطقة دارفور بالسودان، وإدانة التدخل الخارجي، لكن التصور الروسي كسر حالة الاعتياد في طرح القرار الدولي، فأهدافه المعلنة تحمل عمليا مساحة واسعة للتعامل مع الأزمة السودانية بشكل يتيح انتهاك السيادة.
قدم نائب سفير روسيا لدى الأمم المتحدة، دميتري بوليانسكي، تصورا متعدد الجوانب لاستخدام حق النقض، وسلط الضوء على سبع نقاط أساسية وفق التالي:
- احترام السيادة السودانية: انتقدت روسيا القرار لتقويضه سلطة الحكومة السودانية، فالقرارات المتعلقة بالتدخل الأجنبي أو حفظ السلام يجب أن تأتي من الخرطوم.
- معارضة التلاعب الخارجي: حيث اتهمت موسكو الدول الغربية باستخدام القرار كذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية للسودان، وشبهت هذا النهج بالهندسة الاستعمارية الجديدة.
- التشكيك في النوايا الغربية: أعربت روسيا عن شكوكها في الدوافع الحقيقية وراء القرار، مشيرة إلى التناقضات الملحوظة في السياسات الغربية تجاه السودان ومناطق الصراع الأخرى، مثل غزة.
- رفض الآليات الدولية: رفضت روسيا تأكيد القرار على المساءلة الدولية، بما في ذلك الإشارة إلى مؤسسات مثل المحكمة الجنائية الدولية، ووصفته بأنه غير فعال ومنحاز.
- النشر المبكر لقوات حفظ السلام: رأت روسيا في غياب وقف إطلاق نار متفق عليه أو استراتيجية واضحة للنشر، فإن إدخال قوات دولية من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم الصراع.
- تحدي الرواية الإنساني: شككت موسكو في دقة الادعاءات الغربية بشأن الأزمة الإنسانية في السودان، واتهمت أنصار الحل بتهميش وجهات نظر الوكالات السودانية.
- إدانة المعايير المزدوجة: في تسليط الضوء على النفاق المتصور، انتقدت روسيا الدول الغربية بسبب دفاعها الانتقائي عن حماية المدنيين، وخاصة بالمقارنة بموقفها من الصراعات مثل الأزمة الإسرائيلية الفلسطينية.
ووسط الاستنكار من الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن للموقف الروسي؛ جاء ترحيب الخارجية السودانية بالفيتو الذي اعتبرته دفاعا عن سيادتها، في وقت كان وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي يصف قرار روسيا بأنه “عار”، واتهم موسكو بتمكين المزيد من إراقة الدماء في السودان، لكن حكومة الخرطومكان لها رأي آخر حيث اعتبرته عملاتضامنيا ضد الهيمنة الأجنبية، وهذا التناقض بين الموقف الرسمي السوداني والمواقف الغربية يوضح أن استخدام روسيا لحق النقض يستند لمسائل أعمق من التعاملبشكل سطحي مع الأزمات الدولية العميقة، فالسفيرة الأمريكية ليندا توماس جرينفيلد التي اعتبرت تصرفات روسيا بأنها “غير مقبولة” وضارة بالمصالح الإفريقية؛ تتناقض بشكل مباشر مع وصف الخارجية السودانية للقرار بأنه محاولة لفرض سيطرة خارجية على السودان تحت ستار المساعدات الإنسانية.
قراءة الدوافع الروسية
يتماشى الفيتو الروسي مع استراتيجية السياسة الخارجية الأوسع نطاقا لموسكو التي تهدف إلى تحدي سردية الغرب تجاه الصراع، فالولايات المتحدة بالدرجة الأولى تحاول وضع السياسة الإفريقية ضمن دائرة المراقبة المباشرة، وفرض نماذج سياسية وأشكال لفض النزاعات تتلاءم وطبيعة النظام الدولي الذي تهيمن عليه واشنطن، فالصراعات في الشمال الإفريقي وعلى الأخص الأزمة الليبية أوضحت أن الغرب الذي تدخل في ليبيا بحجج إنسانية؛ خلف عمليا واقعا سياسيا وإنسانيا قاسيا وحالة من عدم الاستقرار تساعده على ضمان تدخله المتكرر في الشؤون الليبية.
التصور الروسي يبدو مختلفا فالحلول المستدامة لا يمكن أن تأتي عبر قرارات دولية، إنما من خلال بيئة إقليمية تدعم حالة الاستقرار، وهذا الموضوع تعرفه موسكو عبر علاقاتها الطويلة مع القارة الإفريقية، حيث تعاملت مع معظم الدول الإفريقية بما فيها السودان كشريك موثوق به، وجاء استخدامها لحق النقض لتعزيز الرؤية الخاصة بها تجاه الأزمة السودانية، فالعامل الدولي يمكن أن يلعب دورا فاعلا دون أن يصبح جزء من تعقيد الأزمة، فروسيا تدرك حجم “الشبكة الدولية” التي تعمل في السودان، سواء عبر التدخل المباشر، أو من خلال القواعد اللوجستية التي تؤمنها لطرفي الصراع، في وقت تستطيع فيه الهيئات الدولية مثل مجلس الأمن دعم المبادرات الإفريقية ومنها الشرعية بالقوة بدلا من طرح قرارات تعمق الانقسام، وتحييد المصالح الإقليمية لصالح العامل الدولي.
ما هو التالي للسودان؟
حتى لو تم تمرير القرار، فإن تأثيره على الأرض يبقى مجهولا، حيث فشلت دعوات مجلس الأمن السابقة لوقف إطلاق النار في السودان، بما في ذلك خلال شهر رمضان في مارس 2024، في تحقيق نتائج ملموسة،فالقرار الأخير يشكل جزء من آلية دولية لجعل الأزمة السودانية واقعا ربما يؤدي لإعادة تقسيم هذا البلد من جديد، وهناك بالتأكيد حلول مختلفة يمكن أن تنطلق من الداخل السوداني، وتحتاج لدعم دولي أكثر من ظهور قرار جديد لا يوقف الحرب بل يساعد بعض الدول على اكتساب الشرعية الدولية للتدخل في الشؤون الإنسانية.
إن استخدام روسيا لحق النقض ضد قرار مجلس الأمن بشأن السودان يسلط الضوء على تعقيدات الدبلوماسية الدولية في عصر من التنافس الجيوسياسي المتزايد، ففي حين تضع موسكو قرارها في إطار الدفاع المبدئي عن السيادة وعدم التدخل، فإن العناوين المطروحة من الغرب تتخذ من “التدخل الإنساني” ذريعة رئيسية، في وقتلا يمكن سوى للحل السياسي إيقاف الكارثة الإنسانية، فوصول المساعدات الإنسانية يبدو ضروريا ويمكن أن يتم دون قرارات تكرس واقعا خاص في السودان يعمق النزاعات ويمهد لفرض واقع ليس بصالح السودانيين ولا لإفريقيا بشكل عام.
بقلم مازن بلال
قمة “بريكس” في قازان.. نمو في العلاقات الاقتصادية بين مصر ودول المجموعة