في تطور غير متوقع سقطت طائرة بدون طيار تركية الصنع من طراز أكينجي في 28 يناير 2025 بمدينة العجيلات غرب ليبيا، وأشعلت أسئلة حول انتهاك حظر الأسلحة الدولي، وكشفت خفايا العلاقة بين أنقرة وحكومة الوحدة الوطنية المنتهية الولاية.
سقوط الطائرة حمل معه صورة مختلفة للتداعيات الجيوسياسية المحتملة، فهو انعكاس مباشر لمذكرة التفاهم للتعاون الأمني والعسكري في نوفمبر 2019، التي قدمت بموجبها تركيا لحكومة طرابلس دعما عسكريا يتضمن إرسال مستشارين عسكريين وتوفير معدات وتدريب لقوات غرب طرابلس، إضافة لمذكرة التفاهم بشأن وضع القوات التركية في ليبيا الموقع في مارس 2024 التي منحت القوات التركية حريات عملياتية واسعة، بما فيها حمل الأسلحة الشخصية وارتداء الزي العسكري أثناء أداء المهام، والوصول غير المقيد إلى المجال الجوي والمياه الإقليمية الليبية، وإنشاء وإدارة أنظمة الاتصالات الخاصة بها، والحصانة القانونية، وتوفير دعم لوجستي واسع النطاق من قبل الحكومة الليبية، بما في ذلك الوقود والخدمات الأساسية دون تكلفة على تركيا.
عمليا فإن وجود الطائرة يعتبر دليلا واضحا على انتهاك حظر الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة على ليبيا عام 2011، حيث تشير التقاريرإلى أن الطائرة بدون طيار تم رصدها سابقا في قاعدة مصراتة الجوية، ويُبين أن هناك عملية منظمة لنقل طائرات بدون طيار متقدمة من تركيا إلى ليبيا بشكل سري، ومن المرجح أن تكون تركيا سهلت هذا النقل، كما يكشف استعداد حكومة الوفاق الوطني لدفع عدة أضعاف السعر الفعلي للطائرة بدون طيار في محاولة لتأمين التكنولوجيا العسكرية المتطورة على الرغم من الحظر.
تركيا ودور حكومة الدبيبة
بينما كانت الطائرة بدون طيار تحت سيطرة حكومة الوفاق الوطني رسميا، فإن التقارير تتحدث عن أن تركيا فرضت شروطا على تشغيلها، ما يتطلب من طرابلس تنسيق نشرها مع أنقرة، فحكومة طرابلس “تملك” الطائرة بدون طيار من الناحية الفنية، لكن استخدامها الاستراتيجي مربوط بقرار من أنقرة.
واعتمدت إدارة الدبيبة، عبر سعيها للسيطرة على غرب ليبيا، على المساعدة العسكرية التركية لمحاربة الميليشيات المحلية وجماعات الجريمة المنظمة والمنافسين السياسيين،ونشر الطائرة بدون طيار فوق العجيلات كان كجزء من حملة أمنية واسعة النطاق بقيادة صلاح الدين النمروش، قائد المنطقة العسكرية الغربية، للقضاء على الأنشطة غير المشروعة مثل الاتجار بالمخدرات والكحول.
كما يعكس قرار نشر الطائرات بدون طيار للقيام بـ “زيارة تفتيشية” وعمليات ضد مواقع تصنيع الكحول تحولا في العقيدة العسكرية داخل المناطق الخاضعة لسيطرة حكومة الوحدة الوطنية، فبدلا من استخدام القوات البرية التقليدية وحدها، اعتمدت حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها بشكل متزايد على الطائرات بدون طيار للاستطلاع الجوي والضربات المستهدفة والترهيب النفسي، حيث توفر هذه الطائرات بدون طيار معلومات استخباراتية متزامنة، ويتيح للقوات على الأرض تقييم التهديدات قبل الاشتباك، وهو مفيد بشكل خاص في عمليات مكافحة التمرد.
وأما على المستوى العسكري، فإن استخدام طائرات بدون طيار يحمل عاملين أساسيين: فالأول هو إظهار القوة، فنشرها فوق العجيلات وغيرها من المناطق المتنازع عليها هو تلويح بقدرة حكومة طرابلس على فرض قوتها وفرض حكمها باستخدام أسلحة عالية التقنية، وهو رسالة إلى الفصائل والميليشيات المتنافسة العاملة في غرب ليبيا، والعامل الثاني يتعلق بالدور التركي، فاستخدامها في عمليات تنفيذ القانون عوضا عن الاشتباكات العسكرية؛ يؤشر إلى أن أنقرة تسعى إلى توسيع دورها لما هو أبعد من الدعم العسكري التقليدي، والتأثير على مسائل الأمن الداخلي في ليبيا.
من أسقط الطائرة.. وكيف؟
السؤال الأساسي والهام يرتبط بالجهة التي قامت بإسقاط الطائرة، فحكومة طرابلس امتنعت عن إصدار أي رد رسمي، بينما لزمت السلطات التركية الصمت، والسيناريوهات المحتملة لإسقاط الطائرة توضح طبيعة التنافس المحلي والدولي.
وإذا كانت هذه العملية تمت على يد الفصائل المناهضة لحكومة طرابلس؛ فإنها في الوقت نفسه تحاول التلويح بورقة ضد الدبيبة وبأنها تملك صواريخ أرض-جو أسلحة مضادة للطائرات، أما إذا كانت جهات خارجية قامت بهذا الأمر فإن مؤشرات خطيرة تستبع الحدث، لأن ما حدث يعتبر مقدمة للصراع مع النفوذ التركي في ليبيا، وأما سيناريو الخلل الفني وهو الأقل احتمالا، فهو سيؤثر على طبيعة المبيعات التركية من الأسلحة، فـ”أكينجي” نموذج جديد نسبيا للطائرات بدون طيار، وعلى الرغم من أن تركيا تسوقه كنظام متطور، فإن فقدانه في ظروف غير قتالية يشير إلى نقاط ضعف فنية.
ومهما اختلفت الاحتمالات فإن التداعيات الجيوستراتيجية ستظهر بشكل سريع، فهي تعتبر بالدرجة الأولى ضربة لمصداقية الجيش التركي، وفقدان هذه الطائرة المتطورة في ليبيا يشوه سمعة تركيا كشركة رائدة في تصنيع الطائرات بدون طيار، حيث تم تسويقها باعتبارها واحدة من أكثر الطائرات بدون طيار تقدما في ترسانة تركيا، وإسقاطها يثير الشكوك حول قدرتها على الصمود في مواجهة أنظمة الدفاع الجوي الحديثة، في المقابل سيظهر بشكل سريع زيادة في التدقيق على التدخل التركي في ليبيا، فالحادث أثار نقاشات جديدة حول الدور العسكري التركي في ليبيا، وتدخل أنقرة المستمر يقوض سيادة ليبيا ويزيد من تفاقم الانقسامات الداخلية، وستواجه الأمم المتحدة الآن دعوات متجددة لفرض حظر الأسلحة بشكل أكثر صرامة.
عمليا، فإن حكومة طرابلس ستعاني من الحادثة على المستوى السياسي، فهي تواجه معارضة داخلية ومن حكومة الشرق ومجلس النواب الليبي، وفي حال تم الكشف عن تورط جهة خارجية في هذا الأمر، فستتعرض حكومة الدبيبة لضغوط لاتخاذ تدابير انتقامية، ما يؤدي إلى تصعيد التوترات في المشهد الأمني المتقلب في ليبيا، فالحدث يوضح أن الجهات الفاعلة غير الحكومية في ليبيا لديها الآن إمكانية الوصول إلى أسلحة الدفاع الجوي القادرة على إسقاط طائرات بدون طيار عالية الارتفاع، وهذا التطور يغيير ميزان القوى بشكل كبير، ما يجعل حرب الطائرات بدون طيار مسعى أكثر تكلفة وغير مؤكد.
ويمثل إسقاط طائرة أكينجي التركية بدون طيار في ليبيا نقطة تحول حاسمة في الصراع داخل البلاد، ويكشف عن نقاط ضعف الاستراتيجية العسكرية التركية، كما يسلط الضوء على الموقف الهش لحكومة طرابلس، ويثير أسئلة عاجلة حول انتشار الأسلحة المتقدمة في ليبيا.
وبينما يراقب المجتمع الدولي هذا الحادث، فإن عواقبه ستؤثر في مسار السياسة الليبية، فهو اختبار لآلية عمل حكومة طرابلس، وللشكوك حول نهجها، إضافة لطبيعة الدور التركي ونوعية المساعدات العسكرية التي يقدمها، فتحدي تغير ميزان في طرابلس عبر استخدام تقنيات عسكرية سيرفع سقف التصعيد على المستويين السياسي والعسكري، وسيأُخر من أي عملية سياسية كالانتخابات التي يمكن أن توحد الصف الليبي، وتبدأ بمرحلة النهوض.
بقلم: مازن بلال
الرئيس الجزائري يصدق على اتفاقية المياه الجوفية المشتركة مع تونس وليبيا