تشهد القارة الإفريقية صعود قوة جديدة تتمثل في روسيا، حيث عززت موسكو بشكل ملحوظ وجودها في مختلف أنحاء إفريقيا، متوسعة في مجالات تتنوع بين الاقتصاد والتعاون العسكري والثقافة والتعليم.
بدت القارة الإفريقية لعقود طويلة مسرحاً لنشاط استعماري خلف على مدار السنوات كوارث طبيعية وسياسية، فقامت الدول المستعمرة بتقسيم القارة بشكل يتبع مصالح المستثمرين الغربيين، وخلال مؤتمر برلين عام 1884، قُسِّمت إفريقيا بين القوى الأوروبية دون مراعاة للحدود العرقية أو الثقافية أو لمصالح الشعوب الإفريقية، وقام الاستعمار بتفكيك الأنظمة السياسية المحلية واستبدالها، ما أضعف القدرة على الحكم الذاتي وأدى إلى عدم استقرار سياسي بعد الاستقلال.
على المستوى الاقتصادي استُغلت الموارد الطبيعية الإفريقية لصالح الدول المستعمِرة، وتم حرمان القارة من الاستفادة من ثرواتها وأدى ذلك إلى تدهور اقتصادي، وفرضت القوى الاستعمارية أنظمة اقتصادية تخدم مصالحها، ودُمرت الصناعات المحلية إضافة لما قامت به من استهلاك البيئة الذي أدى خلال القرن العشرين لمجاعات اجتاحت معظم القارة السمراء، في وقت تم فيه تقسيم المجتمعات وزرع الفتن بين المجموعات العرقية، ما تسبب في نزاعات وصراعات داخلية، وتم فرض الثقافة الأوروبية، وتهميش الثقافات واللغات الإفريقية التقليدية.
الدور الروسي والتوازن الإفريقي الجديد
يعود الدور الروسي في إفريقيا إلى مراحل الستينيات من القرن الماضي الذي شهد استقلال العديد من الدول الإفريقية، وعلى عكس ما قام به الأوروبيون سعى الاتحاد السوفيتي آنذاك إلى دعم حركات التحرر الوطني، وقدم مساعدات مادية وعسكرية للعديد من الدول الإفريقية، مثل مصر، الجزائر، أنغولا، نيجيريا، إثيوبيا، جمهورية الكونغو، ومالي، وخلال عقدي الستينيات والسبعينيات، أقام الاتحاد السوفيتي علاقات دبلوماسية مع معظم الدول الإفريقية المستقلة، ووقع اتفاقيات في مجالات التجارة والنقل، وافتتح مراكز ثقافية في العديد من دول القارة، كما ساهم في بناء مؤسسات صناعية وزراعية وتعليمية، ودرب آلاف الأفارقة في مختلف المجالات.
هذا الدور تراجع مع انهيار الاتحاد السوفيتي لكن السنوات الأخيرة شهدت عودة مختلفة لروسيا إلى القارة السمراء من خلال تعزيز التعاون الاقتصادي والعسكري، وعقد قمم مشتركة، مثل قمة “روسيا – إفريقيا” التي عُقدت في سوتشي عام 2019، وتوسعت مشاركة روسيا مع إفريقيا بشكل ملحوظ على مدى العقد الماضي، فمن مشاريع التعدين إلى الاتفاقيات العسكرية والتبادلات الثقافية، وتعمل روسيا بشكل استراتيجي على نحت دور جديد لخلق توازن جديد يمكن ملاحظته عبر جملة من النقاط:
الشراكات الاقتصادية:
تدور العلاقات الاقتصادية بين موسكو وإفريقيا حول الموارد الطبيعية والطاقة، ولكنها تتعامل بشكل أساسي على تطوير البنى التحتية للدول الإفريقية، فالشركات الروسية مثل روساتوم وروسال تستثمر بشكل كبير في استخراج اليورانيوم والألمنيوم والذهب في دول مثل غينيا وأنجولا وناميبيا، وفي الوقت نفسه، تعمل روسيا على تطوير مشاريع الطاقة النووية في مصر واستكشاف الفرص في مالي وجنوب إفريقيا.
الباحث في مركز دراسات الشرق الأوسط وأفريقيا بجامعة موسكو للعلاقات الدولية، إيفانلوشكاروف، أنه من الناحية الاقتصادية، تظل الدول الإفريقية في شمال القارة، وخاصة مصر والجزائر، الشركاء الرئيسيين لروسيا، ويضيف “إذا تحدثنا عن الحوار السياسي، فإن شركاءنا الآن هم جنوب إفريقيا وإثيوبيا، وكذلك مصر وبعض الدول الأصغر مثل أنغولا وغينيا الاستوائية”.
وفي مجال الطاقة النووية يقول الباحث إن هناك مشاريع نووية حالياً في جنوب إفريقيا وماليكما يبرز دور السنغال وتنزانيا، اللتين يمكن أن تصبحا جزءاً من الممرات النقلية الدولية بين الشمال والجنوب، حيث سيتم نقل البضائع من روسيا والدول الأوراسية إلى دول الجنوب العالمي دون تدخل من أوروبا أو الشركات الغربية، ويضيف “روسيا لا تركز على دولة واحدة فقط، بل تقدم لكل دولة برنامج تعاون خاص بها”.
التعاون العسكري والأمني
برزت روسيا كحليف عسكري للعديد من الدول الإفريقية، ولا يتعلق الأمر هنا على عملية توريد السلاح إنما على دعم عمليات الاستقرار ومواجهة المجموعات المتطرفة التي ظهرت منذ بداية الألفية الحالية، وتساهم روسيا بما يقارب من 37% من واردات الأسلحة في إفريقيا،وتعد دول مثل الجزائر ومصر وأوغندا من المستوردين الرئيسيين، وبعيداً عن مبيعات الأسلحة، فإن موسكو ساعدت في تدريب وتأهيل القوات النظامية في الدول الإفريقية على التعامل مع المجموعات الإرهابية التي بدأت بالانتشار منذ حرب الولايات المتحدة في أفغانستان.
يشرح الباحث السياسي أن روسيا تساعد في استعادة وحدة الأراضي في جمهورية إفريقيا الوسطى، بوركينا فاسو، النيجر، ومالي. ويصف علاقة موسكو بهذه البلدان بأنها وثيقة، ويضيف” العديد من شركاتنا الكبرى تعمل على توسيع وجودها في الشواطئ الغربية لإفريقيا.
التأثير الجيوسياسي
لدى موسكو تصورها الخاص للنظام الدولي الذي يتعامل مع التعددية القطبية بدل من المركزية الأوروبية – الأطلسية، وتؤكد إستراتيجيتها على تشكيل تحالفات أثبتت قدرتها على رسم ملامح جديدة داخل المحافل الدولية، والمثال الأوضح هنا هو الأزمة الأوكرانية حيث أظهرت الدول الإفريقية دعماً أو حياداً كبيرا ًتجاه روسيا بشأن هذه القضية ومسائل عالمية أخرى.
رسمت النقاط الثلاثة السابقة ملامح لعلاقات دولية مختلفة، ومرحلة اختبار عميقة لطبيعة النظام العالمي الذي يعاكس حالة الهيمنة السابقة، فعلاقات موسكو مع معظم الدول الإفريقية ترسم مساحات جيوسياسية جديدة، تتيح للقارة الإفريقية رسم توازناتها الداخلية من جديد، وتشكل ملامح لحقبة مختلفة عن عصور النهب الاستعماري السابق.
اللغة والتأثير الثقافي
الجانب المثير للاهتمام في مشاركة روسيا في إفريقيا هو الاهتمام المتزايد باللغة والثقافة الروسية، حيث تبدو المبادرات التعليمية جزءا من التأسيس الروسي الخاص للعلاقات مع المجتمعات في إفريقيا، حيث تنتشر مراكز اللغة الروسية في مختلف أنحاء القارة، وبدعم من برامج أكاديمية مثل برامج جامعة سانت بطرسبرغ الحكومية، التي تقدم دورات مجانية في دول مثل أوغندا وتنزانيا وجمهورية إفريقيا الوسطى، وفي الجزائر، تم تقديم أكثر من 4000 طلب في غضون يوم واحد لبرامج اللغة الروسية.
عبر تحليل الأداء السياسي الروسي يتضح أن موسكو تستخدم التبادل الثقافي كأداة لتعميق العلاقات؛ بعيداً عن الشكل المباشر الذي تجسده الاتفاقات بينها وبين حكومات الدول الإفريقية، وذلك بهدف بناء الثقة ودعم الشراكات طويلة الأجل، حيث يعمل الطلاب المتدربون في الجامعات الروسية كجسور بين موسكو وبلدانهم الأصلية، وخاصة في مجالات مثل الطب والهندسة والعلوم الإنسانية.
تم دعم السياسات الثقافية بتظاهرات خاصة مثل “الإملاء الجغرافي”، الذي يشكل حدثاً تعليمياً دولياً يقام سنوياً منذ عام 2015، ويهدف إلى تعميم المعرفة الجغرافية، فضلا ًعن زيادة الاهتمام بالعلوم والتراث الوطنيين، وأقيم في 25 دولة إفريقية، فهو يشجع على المشاركة التعاونية، ويجتذب مشاركة الآلاف.
في هذا السياق، يقول لوشكاروف، إنه “من المهم أن نفهم أنه يجب إجراء اختبار شامل للمعرفة، لتقييم مدى فاعلية البرامج التعليمية ومدى قدرة الطلاب على تعلم لغة جديدة – وهي لغة معقدة، حيث تعتبر اللغات السلافية صعبة بسبب وجود الحروف والتصريفات”.
يضيف الباحث في تصريحه إن “إجراء مثل هذا الاختبار هو أمر بالغ الأهمية كعملية مراجعة في السياسة الإنسانية الروسية”، ويشرح “إنه لحظة فحص وفهم، هل كل شيء يسير بشكل صحيح أم أن هناك حاجة لتعديلات؟ يجب ألا ننسى أن أي حدث جماعي يتعلق باللغة أو الثقافة الروسية يساعد الناس على فهم أنهم ليسوا وحدهم، وأن الحركة نحو فهم اللغة الروسية وثقافتها تتسع، وأن العلاقات بين أفريقيا وروسيا تشهد تطوراً”.
التصورات الإفريقية عن روسيا
تتشكل وجهات النظر الإفريقية عن روسيا وفق سياقات متعددة وهي بدأت مع التعاطف التاريخي الذي يرجع لمرحلة الحرب الباردة، حيث دعم الاتحاد السوفييتي حركات التحرير الإفريقية، وهو إرث لا يزال يعزز النوايا الحسنة في العديد من الأوساط، وهذا ما يجعل الدول الإفريقية تقدر استثمارات موسكو في البنية الأساسية الحيوية واستعدادها للمشاركة دون فرض شروط الحكم، وذلك رغم حجم التجارة الروسية المتواضعة مقارنة بالصين أو الولايات المتحدة.
رغم ذلك بقيت هناك بعض التحفظات التي ظهرت نتيجة الاضطرابات الأمنية، ودور روسيا في دعم الحكومات في مواجهة هذه الاضطرابات، على الأخص أن الأحداث الإفريقية مترافقة مع حملات إعلامية واسعة ترفع شعارات مثل “حقوق الإنسان” و”الديمقراطية”، من قبل المحطات الغربية، التي تشكك بالوجود الروسي، وذلك خوفاً من قدرة روسيا على مواكبة حجم الاستثمارات الغربية أو الصينية هناك.
هذا الأمر يؤكده الباحث الروسي الذي يشرح أن روسيا أقل تأثيراً مقارنة بالصين والولايات المتحدة في أفريقيا. ويعيد ذلك إلى حجم التجارة، حيث أن الولايات المتحدة موجودة عسكرياً في أكثر من 20 دولة أفريقية، بينما روسيا في 4-5 دول فقط.
يضيف الباحث “من الناحية الاقتصادية، تتمتع معظم الدول الأفريقية بنظام تجاري تفضيلي مع الولايات المتحدة بموجب قوانين خاصة، وهو ما لا يوجد لروسيا”.
و في المجال الثقافي والإنساني، يرى لوشكاروف أن الولايات المتحدة تتمتع بتمويل أكبر بكثير للبرامج التي تستهدف فئات معينة من السكان الأفارقة – مثل الشباب والعلماء والصحفيين – مقارنة بروسيا. ويضيف أن روسيا تحاول التفوق من خلال الجودة، حيث تحاول الحكومة الروسية أن يكون للموارد التي تُخصص أثر أكبر، ويقول ” نحن نحاول جذب الشباب الإفريقي للدراسة في الجامعات الروسية والعمل في فروع الشركات الروسية المحلية، وبالتالي بناء روابط قوية بين المجتمعات الروسية والأفريقية – وهذه الروابط أفقية، مما يجعلها أكثر قوة من الروابط بين الحكومات أو النخب”.
وبحسب رأي الباحث فإن التركيز الروسي على الروابط الأفقية أقوى، لذلك من المرجح أن تكون النتائج أكثر إيجابية على المدى القريب،أما بالنسبة للصين، فهي تتمتع بحجم تجاري كبير ونشاط ثقافي قوي، سواء من الناحية المالية أو الكمية.
ومع ذلك، الصين تتخلف عن روسيا في التعاون العسكري والسياسي وكذلك في مجالات الطاقة النووية والصحة. توجد العديد من المجالات التي لم تتمكن الصين من تقديم حلول جادة لها للدول الإفريقية، بينما استطاعت روسيا إيجاد مكانتها الخاصة.
فرنسا والولايات المتحدة: الاستجابات والتنافسات
مع تعميق روسيا لتواجدها، تعيد القوى التقليدية مثل فرنسا والولايات المتحدة تقييم استراتيجياتها الإفريقية، حيث تواجه فرنسا، التي كانت مهيمنة تاريخياً في إفريقيا الناطقة بالفرنسية، تراجعا ًفي النفوذ متزامناً مع تطور الشراكات الروسية في مالي وبوركينا فاسو وجمهورية إفريقيا الوسطى، وتنامي المشاعر المعادية لفرنسا، حيث اضطرت باريس إلى سحب قواتها وتقليص العمليات في المناطق التي تملأ فيها روسيا الفراغ.
بالنسبة للولايات المتحدة في عهد الرئيس جو بايدن، ركزت على الشراكات الأمنية مع الدول الإفريقية الرئيسية، مثل كينيا وأنغولا، ومع ذلك، فإن نهج “أميركا أولاً” في عهد ترامب قلل من أولوية إفريقيا، وهذا الأمر مؤهل للتطور في مرحلة حكم ترامب القادمة مع بداية العام القادم، ووفق تصريحات ترامب خلال حملته الانتخابية وبعد انتخابه، تؤكد على اهتمامات باتجاه الشرق والصين بالدرجة الأولى، كما أن سياسات ترامب السابقة غير متحمسة لنشر مزيد من القوات في العالم، ما خلق مساحة للمنافسين،ويتوقع الخبراء استمرار هذه السياسة التي لا تتدخل، ما يترك روسيا والصين تتنافسان على الهيمنة.
لكن فرنسا والولايات المتحدة ورغم أي سياسات تتبعها الإدارة الأمريكية القادمة، فإنهما تبديان قلقاً من الأنشطة الروسية في إفريقيا، والتعامل مع هذا الموضوع سيتبع تطور المشهد الجيوسياسي للقارة الإفريقية، فالتوازن مع الدور الروسي سيبقى قائماً، وسيحمل مقاربات مرتبطة بطبيعة النشاط التجاري والعسكري لروسيا الذي مازال في بدايته مقارنة بالهيمنة الاقتصادية للصين والبصمة العسكرية للولايات المتحدة.
في السياق ذاته، يشرح الباحث الروسي أن السياسة الأمريكية لن تتغير بشكل جذري، ويضيف “ما يختلف هو أن ترامب سيولي أهمية أكبر لقدرة الدول الإفريقية على التصدي أو المشاركة في مواجهة الصين”.
ويرى الباحث أن إدارة ترامب ستواجه خيبة أمل كبيرة، لأن معظم الدول الإفريقية، حتى تلك التي تتبنى سياسات مؤيدة للغرب، غالباً ما تحاول الحفاظ على مسافة متساوية بين القوى الكبرى، وهي سياسة دبلوماسية تهدف إلى تجنب فقدان مصادر المساعدات المختلفة. لذا، من المرجح أن تواصل الدول الإفريقية اتباع سياسة هادئة تجاه الولايات المتحدة.
هل كانت هناك إخفاقات أمريكية في إفريقيا؟ يجيب الباحث “بالطبع. كان هناك فشل يتعلق بإغلاق قاعدة أمريكية في شمال النيجر، لكنه ليس فشلاً حاسماً، يمكن للولايات المتحدة تعويض ذلك بسهولة من خلال إقامة قاعدة جديدة في غرب إفريقيا، مثل ساحل العاج أو بنين أو أي دولة مجاورة أخرى للنيجر، ومن المهم أن نفهم أن تركيز إدارة ترامب على جنوب وشرق إفريقيا، كما كان الحال مع بايدن، لن يتغير”.
ولا تنظر الدول الأوروبية والولايات المتحدة إلى الدور الروسي بشكل مستقل، فإدارة الصراع مع موسكو يتزامن مع الاهتمام المتزايد من جانب دول أخرى، مثل تركيا والهند ودول الخليج التي تتنافس جميعها على كسب ود إفريقيا، وهي تعتمد في كثير من الأحيان على الأدوار الجانبية لهذه الدول ودرجة المنافسة بينها وبين روسيا.
يعكس التركيز المتجدد لروسيا على إفريقيا طموحاتها الأوسع لاستعادة موقعها العالمي وتحدي الهيمنة الغربية، ومن خلال مزيج من المبادرات العسكرية والاقتصادية والثقافية، أثبتت موسكو نفسها كلاعب مهم في القارة، وتحتاج أن تتعامل مع تنافس مزدوج طرفه الأول القوى الكلاسيكية مثل فرنسا والولايات المتحدة، أما الطرف الآخر هو الجهات الفاعلة الناشئة مثل الصين وتركيا، وبالنسبة للدول الإفريقية فإنها سترى فرصاً على مستوى المنافسة الجيوسياسية لتأكيد خياراتها مع شراكات مواتية، وبشكل يعيد تشكيل دور القارة في النظام العالمي.
بقلم نضال الخضري
خالد يوسف يهدد بمقاضاة مصر للطيران بسبب حذف مشاهد من فيلم “الإسكندراني”