في مشهد يجمع بين الغرابة والمرارة، أفرج القضاء اللبناني كفالة قدرها 11 مليون دولار، عن هانيبال معمر القذافي بعد عشر سنوات من الاحتجاز دون محاكمة.
القرار جاء متأخرا ومثقلا بالأسئلة، ومفتوحا على الكثير من إشارات الاستفهام حول نزاهة القضاء اللبناني، وازدواجية المعايير في مقاربة “حقوق الإنسان” كما تراها القوى الغربية، لكن القضية، بأكملها، لا تتعلق فقط بهانيبال القذافي كفرد، بل بما تمثله قضيته من رمزية عميقة لانهيار مبدأ المحاكمة العادلة في دولة تصارع منذ سنوات انقسامات طائفية، وضغوطات إقليمية، وعجزا متراكما في استقلالية القضاء.
طفل متهم بجريمة عمره عامان
اختفى الإمام موسى الصدر في ليبيا في 25 أغسطس 1978، حيث سافر إلى ليبيا مع اثنين من أصحابه للاجتماع مع المسؤولين الحكوميين بدعوة من الرئيس معمر القذافي، وشوهد الثلاثة لآخر مرة في 31 أغسطس، ولم يسمع منهم أي شيء مجددا، وظهرت نظريات عديدة حول ظروف اختفائهم، إلا أن أيا منها لم يُثْبَت، وبقي مصير الصدر حتى اليوم مجهولاً، وكان هانيبال القذافي يبلغ من العمر سنتين فقط حينها.
وبعد عقود من الحادثة وجد نفسه محتجزا في زنزانة انفرادية ببيروت، بتهمة “كتم معلومات” عن الجريمة، رغم عدم وجود أي دليل ملموس على ضلوعه، ولا ملف اتهام واضح، ولا حتى محاكمة حقيقية، بل استدعاءات فقط وتحقيقات متقطعة، تحولت بمرور الزمن إلى احتجاز تعسفي طويل، تصفه منظمات حقوقية مثل “هيومن رايتس ووتش” بأنه غير قانوني وغير إنساني.

ومع كل سنة جديدة، كانت الأسئلة تتضاعف، فلماذا يُحتجز رجل لم يكن وعى العالم بعد حين حصلت الجريمة؟ ومن يخدم بقاءه في الزنزانة كل هذه المدة؟ ولماذا الصمت الدولي المطبق؟
قضاء مختطف أم دولة مختطفة؟
يؤكد محامو القذافي، ومنهم الفرنسي لوران بايون، أن قضية موكلهم مختطفة سياسيا، فهي في نظرهم ليست مسألة عدالة، بل ورقة ضغط بيد بعض القوى اللبنانية، وعلى رأسها حركة أمل التي تقودها عائلة الإمام المختفي موسى الصدر، وعلى مدار عشر سنوات، لم يتقدّم الملف في اتجاه حل قانوني، بل ظل عالقا في دوامة الاستغلال السياسي.
وبحسب روايات متعددة، لم يكن القضاء اللبناني يوما حرا بالكامل في إدارة هذه القضية، فمنذ اليوم الأول لاعتقال هانيبال القذافي إثر استدراجه من سوريا إلى لبنان في عملية وصفت بـ”الاختطاف”، بدا أن الملف يتبع مزاج الجهات السياسية أكثر مما يتبع القواعد القضائية.
وإذا كان المحقق العدلي زاهر حمادة أذن بإطلاق سراحه أخيرا، فإن الشروط التي رافقت القرار تُجهِض معناه الإنساني والقانوني، فالكفالة البالغة 11 مليون دولار غير منطقية ولا قابلة للتحقيق، نظرا لكون القذافي خاضعا لعقوبات دولية تمنعه من التصرف بأي أموال، إن وجدت، والأخطر من ذلك، منعه من مغادرة البلاد، ما يجعله عمليا قيد الإقامة الجبرية في بلد لا يوفر له أدنى درجات الحماية.
القانون على مقاس السياسة
ما حصل ليس مجرد “إفراج مشروط”، بل مثال صارخ على تشوه مفهوم العدالة في لبنان، فهل يجوز أن يُسجن شخص عشر سنوات دون محاكمة ثم يُطلب منه دفع مبلغ خرافي لينال حريته المشروطة؟ أليس هذا بحد ذاته جريمة أخرى؟ أين القضاء من ذلك؟ وأين القانون؟ وأين مبدأ الحبس الاحتياطي الذي يُفترض أن يكون إجراء استثنائيا لا قاعدة ممتدة لعقد من الزمان؟

كثير من المتابعين رأوا في القرار محاولة لتجميل الصورة القضائية للبنان بعد أن أصبحت قضية هانيبال رمزا دوليا للاحتجاز التعسفي،وجاءت الضغوط المتزايدة من منظمات حقوق الإنسان، خصوصا بعد تدهور حالته الصحية، لتدفع ببعض “التنازلات الشكلية” لا أكثر، فالحرية ما زالت مقيدة، والعدالة ما زالت مؤجلة، والمحاسبة بعيدة كل البعد.
صمت غربي.. نفاق مكشوف
على الجانب الآخر من العالم، يراقب الغرب هذه القضية بصمت مُريب، فلا بيانات رسمية، ولا تدخلات واضحة أو تنديد يُذكر، وحتى المفوضية الأوروبية لحقوق الإنسان، التي عادة ما تندد بتجاوزات أقل، التزمت الصمت الكامل.

هنا تكمن مفارقة فاضحة، حين يكون المحتجز صحفيا أو ناشطا أو مواطنا من دولة حليفة؛ تتحرك العواصم الغربية بسرعة البرق، وتُصدر بيانات وتفرض عقوبات وتستدعي سفراء، أما عندما يكون المحتجز نجل معمّر القذافي، فالأمر مختلف. لأن الغرب، كما يبدو، لم يتجاوز بعد “شيطنة” كل ما له صلة بالنظام الليبي السابق، حتى وإن كان الضحية هذه المرة بلا ملف، بلا محاكمة وبلا قضية.
هذه الازدواجية في التعاطي مع ملف حقوق الإنسان تكشف أن المفهوم نفسه بات أداة سياسية لا مبدأ أخلاقيا، فحقوق الإنسان، كما تُمارس غربيا، ولها معايير نسبية ترتبط بالهوية والانتماء والمصالح، لا بالمبادئ.
هانيبال القذافي: بين فكي كماشة
والأسوأ من كل ذلك أن هانيبال القذافي نفسه يدرك أنه عالق في مأزق مزدوج، فهو من جهة رافض تماما لأي تدخل رسمي من حكومة طرابلس التي يعتبرها “غير مؤتمنة”، ويعلم جيدا أن وقوعه في يدها يعني تحوله إلى رهينة سياسية بامتياز، ومن جهة ثانية لا يستطيع مغادرة لبنان حتى لو تمكن من دفع الكفالة، بسبب قرار المنع من السفر، وغياب أي دولة تقدم له اللجوء الآمن.
فمن يحمي هانيبال اليوم؟ لا دولة ولا مؤسسة ولا منظمة تملك النفوذ الفعلي، ولا ممر قانونيا واضحاً، فخرج من السجن نظريا، لكنه ما زال في قبضة الابتزاز السياسي.
العدالة المنتقاة.. مستقبل خطير
القرار اللبناني ليس نهاية القصة، بل بداية فصل جديد أكثر تعقيدا، فإبقاء مواطن قيد الاحتجاز لعشر سنوات دون محاكمة، ثم الإفراج عنه بشروط مستحيلة، يعكس خللا خطيرا في بنية القضاء، وليس في لبنان وحده بل في أنظمة كثيرة حول العالم.

هانيبال القذافي ليس القديس الضحية، لكنه ليس الجاني أيضاً، قضيته تطرح سؤالا أكبر بكثير من براءته أو إدانته، فمن يملك القرار الحقيقي في هذا العالم؟ القاضي أم السياسي؟ القانون أم الانتقام؟ ومن يضمن ألّا يتكرر المشهد مع شخص آخر في مكان آخر، طالما أن العدالة يمكن تأجيلها أو شراؤها؟
الإفراج لا يغلق القضية
في أول تعليق له عقب الإفراج، كتب هانيبال القذافي: “العدالة الإلهية بدأت تأخذ مجراها”، وربما كان يقصد بذلك أن العدالة الأرضية فشلت تماما.
لكن الحقيقة أن الإفراج لا ينهي القضية، بل يفتح الباب لإعادة طرحها من منظور جديد عبر محاسبة من اعتقله دون وجه حق، ومساءلة القضاء اللبناني عن ممارساته، ومحاسبة المجتمع الدولي عن صمته، خصوصا الدول التي ترفع شعار حقوق الإنسان ليل نهار.
قضية هانيبال القذافي ليست مجرد ملف قضائي، بل مرآة كاشفة لحقيقة الوضع القانوني والسياسي في الشرق الأوسط، وتعرية حقيقية لمفاهيم العدالة الدولية حين تكون ضحية الحسابات، وإن لم تتم مراجعة هذه القضية من جذورها، فستظل شاهدا حيا على أن الظلم لا يحتاج إلى سجن، بل إلى قضاء هش وسكوت عالمي متواطئ.
بقلم: مازن بلال
استثمارات مصرية جديدة في ليبيا
