بعد خمسة أشهر على طرحها “خريطة الطريق السياسية” لإنهاء الانقسام الليبي، عادت المبعوثة الأممية إلى ليبيا، هانا سيروا تيتيه، إلى مجلس الأمن لتقر بوضوح عدم إنجاز أي شيء فعلي حتى الآن.
جملة قصيرة لكنها كاشفة، تختزل مأزق المسار الأممي في ليبيا، فهو مشروع مثقل بالنيات الحسنة، ومؤسسات ليبية غارقة في صراع البقاء، ومجتمع دولي يكتفي بمواساة نفسه ببيانات “التقدير والدعم”.
ورغم أن تيتيه حصدت عبارات الشكر على “نشاطها” و”عملها الجاد”، فإن مضمون إحاطتها الأخيرة أمام مجلس الأمن في 19 ديسمبر 2025 كان اعترافاً ضمنياً بفشل متدرج في تطبيق خريطة الطريق التي أرادت أن تكون جسراً نحو الانتخابات، فإذا بها تتحول إلى مرآة جديدة لتعقيدات المشهد الليبي، ولعجز الأمم المتحدة عن كسر الحلقة المفرغة بين الخطاب الدبلوماسي والواقع المتعثر.

جمود مزدوج: مؤسسات منقسمة وثقة مفقودة
جوهر الإحاطة كان الانسداد السياسي مستمر، فمنذ اتفاق لجنتي مجلسي النواب والدولة في الرابع من أكتوبر على إعادة تشكيل مجلس إدارة المفوضية العليا للانتخابات، لم تستكمل الخطوات اللاحقة، وأرسل مجلس الدولة أسماء مرشحيه، لكن مجلس النواب لم يحرك ساكناً، ثم جاء الموعد النهائي في 11 ديسمبر ليتبدد دون نتيجة.
هذا التأخير وفق تصريحات تيتيه ليس تقنياً ولا إجرائياً، بل يعكس غياب الثقة المتجذر بين المؤسستين التشريعيتين، والانقسامات الداخلية في كل منهما، فحتى لجنة “6+6” التي يفترض أن تعِد القوانين الانتخابية باتت ساحة صراع بين تيارات المجلس الأعلى للدولة، بعدما طالبت أغلبية أعضائه بالإبقاء على الوفد الأول بدل إعادة تشكيله.
بهذه الصورة، تتجلى الثنائية الليبية المنهكة؛ مؤسسات تكرر اتفاقات شكلية لا تفضي إلى شيء، وبعثة أممية تراقب وتناشد وتنتظر، فيما يستمر الشلل المؤسسي كآلية دفاع ذاتي تحافظ على مصالح الأطراف جميعاً.
خارطة الطريق بين الفكرة والتآكل
حين طرحت تيتيه في أغسطس الماضي “خريطة الطريق السياسية”، قدمتها كتصور ثلاثي الأركان:
- تجديد الإطار الانتخابي عبر استكمال مجلس المفوضية وتعديل القوانين.
- توحيد المؤسسات وتشكيل حكومة جديدة قادرة على الحكم في عموم البلاد.
- إطلاق الحوار المهيكل كمنصة ليبية واسعة لبناء رؤية مشتركة للدولة.
لكن بعد مرور خمسة أشهر، يبدو أن الركائز الثلاث جميعها تعاني الجمود ذاته، فالمفوضية لم تستكمل، والإطار الدستوري لم يعتمد، والحوار المهيكل انطلق شكلياً من طرابلس بمشاركة 124 شخصية، لكنه ما يزال محاطاً بالتحفظات السياسية والغياب الجهوي.
وإذا كان هذا الحوار، كما تصفه تيتيه، “أول عملية بهذا الحجم تعقد على الأراضي الليبية”، فهو أيضاً أول اختبار لقدرة الأمم المتحدة على التحرك خارج المكاتب المغلقة نحو الميدان، في بلد تتنازع فيه الشرعيات بقدر ما تتنازع فيه الميليشيات.

الواقع الأمني والاقتصادي: استقرار هش وانقسام دائم
في المستوى الميداني، تبدو الصورة التي نقلتها تيتيه مزدوجة، فطرابلس كما قالت “مستقرة إلى حد ما”، لكن الغرب الليبي يعيش هشاشة أمنية متقطعة، تذكر بأن أي عملية انتخابية تظل رهينة التوازنات العسكرية أكثر من كونها ثمرة توافق سياسي.
أما شرق البلاد، فغياب تمثيله في مجلس المفوضية يعمق شعور التهميش ويغذي الخطاب الانفصالي في بعض أوساطه.
اقتصادياً، أكدت المبعوثة الأممية أن التفكك المالي المستمر يقوض الثقة في الدينار الليبي ويضعف مؤسسات الدولة، ومع أن توقيع اتفاق البرنامج التنموي الموحد بين مجلسي النواب والدولة في 18 نوفمبر “خطوة إيجابية”، إلا أن مصيره مرهون بالشفافية الغائبة، فالبلاد ما تزال من دون موازنة موحدة لعام 2026، والإنفاق العام يخضع لولاءات مناطقية وشبكات مصالح متشابكة.
ما وصفته تيتيه بأنه “تقويض للدينار والثقة العامة” هو انعكاس مباشر لانقسام السلطة النقدية والمالية بين طرابلس وبنغازي، ولتسييس الإيرادات النفطية، ما يجعل الاقتصاد الليبي رهينة معادلة سياسية لم تحل بعد.

التعديل الوزاري والغموض التنفيذي
لفتت تيتيه في إحاطتها إلى إعلان رئيس حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية، عبد الحميد الدبيبة، نيته إجراء تعديل وزاري واسع، لكنها أشارت إلى أن البعثة “لم تتلق أي تفاصيل بشأن طبيعته أو الأسماء المقترحة”.
هذه الملاحظة تحمل دلالات أعمق، فالتعديل الحكومي في ليبيا لا يعني إعادة هيكلة السلطة التنفيذية بقدر ما يعكس تبدل موازين القوى داخلها، وفي غياب إطار موحد للشرعية، يتحول أي تعديل وزاري إلى حدث رمزي لا يغير شيئاً في معادلة الانقسام.
هذا الواقع يظهر التناقض بين الحركة الشكلية للنخب الليبية التي تصدر بيانات ومبادرات متتالية، وبين الجمود الفعلي الذي ترصده البعثة الأممية، فالسياسة في ليبيا باتت فن إدارة الوقت بدل إدارة الدولة.
حقوق الإنسان: المأساة المستمرة خلف الأبواب المغلقة
لم تغب الملفات الحقوقية عن إحاطة تيتيه، التي أعربت عن قلقها العميق من تزايد العنف ضد النساء والمهاجرين والأقليات، مشيرة إلى حادثة مقتل الناشطة خنساء مجاهد في طرابلس، ووفاة 24 محتجزاً منذ مارس 2024 نتيجة التعذيب أو الإهمال الطبي.
إن هذا البعد الإنساني يذكر بأن الأزمة الليبية ليست فقط صراعاً على السلطة، بل أيضاً انهياراً في منظومة الدولة القانونية، حيث الإفلات من العقاب أصبح القاعدة، وحقوق الإنسان مجرد بند بروتوكولي في إحاطات الأمم المتحدة.
من الناحية الرمزية، شكلت الإشارة إلى خنساء مجاهد لحظة صريحة نادرة في خطاب دبلوماسي عادة ما يتحاشى الخوض في التفاصيل الحقوقية، لكن المفارقة أن هذا القلق الأممي لا يترجم إلى ضغط فعلي على الأطراف المتورطة في تلك الانتهاكات، مما يعمق الفجوة بين لغة القلق ولغة الفعل.

الأمم المتحدة والرهان الصعب: بين الوساطة والتورط
حين تقول تيتيه إن العملية السياسية “لا يجب أن ترهن بتقاعس الأطراف”، فهي تعبر عن إحباط داخل الأمم المتحدة، فمنذ مغادرة ستيفاني ويليامز المشهد، تراجع الزخم الأممي، وغاب عنصر المبادرة الذي ميز مرحلة ملتقى الحوار السياسي في جنيف عام 2021.
أما تيتيه، القادمة من خلفية دبلوماسية إفريقية دقيقة (وزيرة خارجية سابقة لغانا)، فتبدو محكومة بتوازن حساس، وعليها أن تبقى على مسافة واحدة من الجميع، من دون أن تتحول تلك المسافة إلى عجز استراتيجي.
لا تكمن المشكلة فقط في تقاعس الفاعلين الليبيين، بل في غياب رؤية دولية موحدة، فالموقف الأمريكي والأوروبي ما يزال أسير أولوية “الاستقرار الأمني” على حساب “التحول السياسي”، وسط هذه التناقضات، تبقى البعثة الأممية تمسك بخيوط كثيرة لكنها لا تستطيع التحكم بها.
أزمة الشرعية في مبادرة التعيينات الجديدة
من جانب آخر تثير مبادرة الحكومة المؤقتة لملء المناصب الوزارية الشاغرة جدلاً واسعاً حول شرعيتها المؤسسية في ظل انتهاء التفويض السياسي الذي كانت تستند إليه منذ عام 2022، فبينما تم اعتماد الوزراء السابقين عبر مجلس النواب ضمن آلية توافقية رسمية، تأتي الخطوة الحالية خارج هذا الإطار، ما يعمّق الإشكال الدستوري حول مشروعية التعيينات الجديدة.
ويبدو أن الحكومة تسعى لتثبيت حضورها السياسي في فراغ تشريعي لم يُحسم بعد، ما يجعلها تتحرك في منطقة رمادية بين الضرورة الإدارية والالتباس القانوني، في المقابل يُقرأ سلوك الدبيبة على أنه تحرك محسوب على حافة التصعيد أكثر منه مواجهة مباشرة مع الشرق أو الأطراف الداخلية، إذ تتجه بوصلته نحو اختبار حدود العلاقة مع بعثة الأمم المتحدة، محاولاً تعزيز شرعية حكومته على الأرض قبل أي تسوية محتملة.
هذا التباين في المواقف يعكس تصادماً غير معلن بين منطق “الشرعية الدولية” ومنطق “الأمر الواقع، وهو ما ينذر بمرحلة سياسية تتأرجح بين الانفتاح الحذر والتصعيد الصامت.

بين الحوار المهيكل و”النافذة الأخيرة“
من بين ما قدمته تيتيه في إحاطتها هو انطلاق الحوار المهيكل في طرابلس، الذي جمع أكثر من مئة شخصية ليبية من مختلف التيارات والمناطق، غير أنه حتى اللحظة محاولة أخيرة لإنقاذ خريطة الطريق من الغرق.
فإذا كان المقصود به إنتاج توافق اجتماعي يمهد للانتخابات، فإن معضلة الشرعية تبقى قائمة، فمن يملك حق ترجمة مخرجات الحوار إلى قرارات تنفيذية في ظل حكومتين وبرلمان منقسم؟
ما وراء الإحاطة: اعتراف بالفشل المؤقت أم بداية لمسار بديل؟
المفارقة أن خطاب تيتيه حمل في طياته نبرة مزدوجة، فهو متشائم من التعطيل، ويحمل أملاً في أن الحوار المهيكل ربما يفتح طريقاً بديلاً.
ويمكن قراءة تحول في مقاربة البعثة، فبعد أن كانت الأمم المتحدة تكتفي بتسهيل التوافق بين مجلسي النواب والدولة، يبدو أنها بدأت تلمح إلى احتمال اللجوء إلى آلية أممية جديدة تتجاوز المؤسستين، على غرار ما فعلت ستيفاني ويليامز سابقاً حين أنشأت “ملتقى الحوار السياسي”.
كان هذا الأمر واضحاً حين قالت تيتيه صراحة إنها ستعرض “الآلية الجديدة” في إحاطتها المقبلة في فبراير 2026، ما يعني أن البعثة تحضر لخيارات موازية، ربما تشمل توسيع الحوار ليضم قوى اجتماعية جديدة، أو طرح خطة انتخابية مؤقتة بإشراف دولي مباشر.

ليبيا بين أمل الاستقلال وخيبة التكرار
في ختام كلمتها، ربطت تيتيه بين عيد استقلال ليبيا (24 ديسمبر) وذكرى الانتخابات المؤجلة منذ 2021، لتذكر بأن الشعب الليبي ما يزال ينتظر اللحظة التي يصوت فيها لمستقبله بدل أن يتداول مصيره في قاعات نيويورك وجنيف.
لكن مرور أربع سنوات على تلك الوعود يعيد طرح السؤال الأثقل، فهل يمكن للبلاد أن تستعيد وحدتها عبر صناديق اقتراع لم تتوفر شروطها بعد؟
عكست لهجة تيتيه الإجابة ضمن شرط مرتبط بمدى استعداد قادة الغرب للتخلي عن امتيازاتهم، وقدرة المجتمع الدولي على تجاوز إدارة الأزمة إلى حلها فعلاً
إن إحاطة هانا تيتيه الأخيرة ليست مجرد تقرير روتيني، بل وثيقة سياسية تعكس حدود الدور الأممي في بيئة منقسمة، فهي تفضح قصور المقاربة الدولية التي تكتفي بتدوير الصيغ نفسها كل عام، وتكشف في المقابل عمق الأزمة البنيوية التي جعلت من ليبيا بلداً يدار بالنيات المؤجلة لا بالمؤسسات الفاعلة.
بقلم نضال الخضري
القبض على قائد معارضة نيجيرية في ليبيا
