05 ديسمبر 2025

لم تعد مواجهة الحرب في السودان منذ اندلاعها في أبريل2023، بين جيش نظامي وقوة متمرّدة فحسب، بل تجسيد لانهيار بنية الدولة المركزية بكل ما راكمته من إخفاقات تاريخية، وصراع عميق على هوية البلاد ومسارها السياسي والاجتماعي.

ما يجري اليوم هو انفجار مؤجل لمركّبات التهميش والتفكك التي رافقت السودان منذ استقلاله، والتي لم يتم احتوائها حتى في عهد عمر البشير، حيث فشلت الدولة في بناء عقد وطني جامع يوازن بين المركز والأطراف.

الصراع الراهن ليس نتيجة مباشرة فقط للدعم الإقليمي لهذا الطرف أو ذاك، وجذور الأزمة تتجاوز الحسابات الجيوسياسية إلى ما هو أعمق، فهناك تناقض تاريخي بين نخب الخرطوم التي ورثت دولة ما بعد الاستقلال، والمجتمعات في الأطراف التي ظلت تشعر بأنها مهمشة ومحتقرة.

تجسّد هذا التوتر في شخصية محمد حمدان دقلو (حميدتي)، الذي خرج من بيئة دارفورية رعوية وفرض نفسه فاعلا عسكريا لأعلى مركز ظلّ ينظر إليه نظرة استعلاء، ووصفته بعض النخب بـ”العربي المتوحش على الجمل”، وهو تعبير يلخّص عمق الهوة النفسية بين المركز والهامش، ولا تبرر هذه النظرة الوحشية المتبادلة في الحرب، لكنها تفسّر جانبا من قسوتها.

ما وراء تفوّق “الدعم السريع

منذ اندلاع المعارك، أظهرت قوات “الدعم السريع” قدرة لافتة على المناورة والسيطرة السريعة على مناطق استراتيجية، أبرزها مدينة ود مدني وجسر “هنتوب” بولاية الجزيرة.

لكن هذا التفوق الميداني لا يعود فقط إلى أي دعم خارجي، بل إلى طبيعة هذه القوة ذاتها، فهي ميليشيا نشأت من رحم التشكيلات القبلية في دارفور، متمرّسة على حرب العصابات وحركة الوحدات الخفيفة، في مقابل جيش نظامي مثقل بالبيروقراطية وبطء القرار.

استفادت فصائل “الدعم السريع” من مرونتها ومن معرفتها الدقيقة بجغرافيا المدن والأرياف، ومن انهيار الروابط المؤسسية في الجيش نفسه، الذي فقد الكثير من كفاءاته بسبب المحسوبيات والانقسامات الداخلية.

هذا التفوق يظل تكتيكيا لا استراتيجيا، فـ”الدعم السريع” لا تمتلك رؤية دولة، ولا بنية حكم، ولا قاعدة سياسية جامعة، وهي تتحرك ضمن فراغ سياسي وأمني أكثر من كونها مشروع سلطة بديلة، ومع طول أمد الحرب، تتآكل هذه الميزة المرنة لتتحول إلى عبء ميداني في ظل غياب إمدادات منظمة وبيئة اجتماعية مستقرة.

جذور العنف في دارفور

دارفور هي قلب المأساة السودانية، الصراع هناك ليس وليد اللحظة، بل هو امتداد لتاريخ طويل من النزاعات القبلية على الموارد والمساحات الزراعية والمراعي، وفي عهد البشير، جرى احتواء هذه الصراعات مؤقتا عبر تسليح الميليشيات المحلية وإدماجها في جهاز الدولة، فيما عُرف لاحقا بـ”قوات الدعم السريع”، لكن ما كان يُفترض أن يكون أداة للسيطرة تحوّل اليوم إلى مركز قوة ينازع الدولة ذاتها.

ما تشهده السودان من فظائع ومجازر في الفاشر والجنينة هو انفجار لعنف مكبوت في مجتمع لم تُعالج جراحه القديمة، وتراكم فوقها خطاب هوياتي متطرف غذّته السلطة المركزية حين ميزت بين “عرب” و”زرقة”، وبين أبناء المركز وسكان الأطراف.

التقارير الغربية تصف ما يجري بأنه “تطهير عرقي” أو “إبادة جماعية”، فإن هذه المصطلحات كثيرا ما تُستعمل خارج سياقها أو تُستند إلى مصادر غير محايدة، فتوثيق الجرائم والانتهاكات أمر ضروري، لكن لا بد أن يصدر عن لجان سودانية مستقلة أو بعثات مراقبة محايدة، لا منظمات لها أجندات أو انحيازات مسبقة.

فشل الوساطات وتعدد المنابر

منذ أيار 2023، انطلقت مفاوضات جدة بوساطة سعودية–أميركية، وأفضت إلى “إعلان جدة لحماية المدنيين”، لكن الاتفاق لم يصمد سوى أيام قبل أن يُخرق بالكامل، فالمفاوضات كانت سطحية، تركز على وقف النار من دون معالجة جذرية لأسباب الصراع، وفي ظل تغييب أطراف إقليمية فاعلة.

دخل الاتحاد الإفريقي و”إيغاد” على الخط، لتتحول الأزمة إلى ساحة تنافس دبلوماسي بين وساطات متوازية لا تنسق فيما بينها، وغياب رؤية شاملة أعاد الأزمة إلى المربع الأول، وترك السودان أسير مبادرات شكلية بلا مضمون.

بالتأكيد هناك أطرافا إقليمية لها أدوار متفاوتة في الأزمة، إلا أن تضخيم هذه الأدوار يُغفل المسؤولية المحلية، فالدعم الإقليمي ليس سوى عامل مساعد ضمن مشهد أكثر تعقيدا؛ فالقوى الخارجية لا تصنع حربا من العدم، بل تجد في هشاشة الداخل مدخلا لتوسيع نفوذها، فالتدخل لم يكن مسؤولا عن تفجير الحرب، بل أتاح استمرارها فقط، بعدما فشلت الأطراف السودانية في إنتاج تسوية داخلية صادقة.

مأساة إنسانية في ظل صمت دولي

الحرب تركت خلفها واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في تاريخ السودان الحديث، فهناك أكثر من 8.6 مليون نازح، ونحو 25 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات عاجلة، فيما تجاوز عدد القتلى 150 ألفا بحسب تقديرات منظمات الأمم المتحدة.

ومع اتساع نطاق العنف، تراجعت قدرة المنظمات الإنسانية على الوصول إلى المتضررين، وفي دارفور تحديدا أصبحت منطقة مغلقة، حيث تختلط خطوط القتال بالعلاقات القبلية، وتتحول المساعدات إلى جزء من أدوات النفوذ والسيطرة.

لكن التعويل على “قوات حفظ السلام” أو أي تدخل أممي مباشر يبدو اليوم وهما؛ فالتجارب السابقة، من بعثة “يوناميد” في دارفور إلى بعثات أخرى في القارة الإفريقية، أظهرت أن هذه القوات تستهلك الموارد أكثر مما توفر حماية فعلية، وأنها تتحول إلى طرف في الصراع.

السودان يحتاج إلى تدخل ذكي وإلى حماية مدنية نابعة من إرادة داخلية لا مفروضة من الخارج.

أزمة الدولة لا الحرب

المشكلة الحقيقية ليست في الحرب ذاتها، بل في غياب الدولة التي تملك القدرة على إنهائها، فالسودان يعيش اليوم لحظة ما بعد الدولة، فالمؤسسات منهارة، والجيش مفكك، وهناك سلطة سياسية مفقودة، فـ”الدعم السريع” لا يمكن أن يحكم، والجيش لا يستطيع الانتصار، والمجتمع المدني عاجز عن إنتاج بديل جامع.

وما لم يُفتح أفق سياسي جديد يعيد بناء الثقة بين المكونات الاجتماعية، ويؤسس لعدالة انتقالية حقيقية، فإن البلاد تتجه نحو نموذج “الدولة المنهارة” التي لا يملك فيها أحد سلطة كاملة.

تجاوز المأزق السوداني يتطلب الاعتراف بأن الحرب ليست صراعا بين خير وشر، ولا بين جيش وميليشيا فحسب، بل نتيجة تراكم تاريخي لعلاقات غير متكافئة بين المركز والأطراف، ولن تُحلّ بمزيد من التدخل الخارجي أو تقارير المنظمات الدولية، بل عبر مشروع وطني يعيد تعريف الدولة على أساس المواطنة المتساوية.

الخرطوم لم تعد قادرة على إدارة السودان من برجها العاجي، ودارفور ليست هامشا يمكن تجاهله، فإن لم يُستعاد هذا التوازن، فستبقى البلاد أسيرة حلقة من الحروب الأهلية التي تلتهم ما تبقّى من نسيجها الإنساني.

     بقلم: مازن بلال  

اليونيسف تحذر.. أكثر من 640 ألف طفل مهددون بالجوع والمرض في شمال دارفور

اقرأ المزيد