في تصعيد غير مسبوق، اتهمت موسكو حكومة الوحدة الوطنية الليبية منتهية الولاية برئاسة عبد الحميد الدبيبة بالتعاون مع أوكرانيا، في دعم جماعات إرهابية تنشط في منطقة الساحل الإفريقي، عبر وساطة بريطانية.
البيان الروسي الذي حمل لهجة حادة، لم يمر بشكل طبيعي في الأوساط الإقليمية، إذ اعتُبر مؤشراً على توتر جديد في علاقة طرابلس بموسكو، في وقت تتقاطع فيه المصالح الدولية على الأرض الليبية.
رغم حساسية الاتهامات التي تمس الأمن الإقليمي والليبي معاً، لم يصدر أي رد رسمي من حكومة الدبيبة حتى الآن، وهو ما عزز التكهنات بأن موسكو استندت إلى معلومات حقيقية ومؤكدة.

اتهامات محددة: تعاون أمني مع كييف عبر وساطة بريطانية
المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، أشارت إلى أن الجهاز الأمني التابع لحكومة الوحدة الوطنية أقام، عبر وساطة بريطانية، تعاونا مع مسلحين أوكرانيين تضمن توريد طائرات مسيّرة هجومية، وتنفيذ تدريبات بإشراف مدربين من الاستخبارات العسكرية الأوكرانية.
وبينت أن لدى موسكو معطيات تؤكد مشاركة ليبية في تنظيم عمليات إرهابية في الساحل الإفريقي، بما في ذلك النيجر”، مشيرة إلى أن هذه الأنشطة تتم بتنسيق مع أوكرانيا، التي تتوسع في “نقل الإرهاب عبر الحدود بدعم من الغرب”.
البيان الروسي لم يكتفِ بالإشارة العامة، بل تضمن تفاصيل عملياتية محددة، مثل التدريب والإشراف الاستخباراتي، وهو ما يمنحه بعداً أمنياً خطيراً، خاصة في ظل الاتهامات السابقة الموجهة إلى كييف ببيع أسلحة غربية لجماعات متطرفة في إفريقيا.

غياب الرد الرسمي: صمت يحمل دلالات
الملفت في هذه القضية هو غياب أي تعليق رسمي من جانب حكومة الدبيبة أو من وزارة خارجيتها أو حتى وسائل إعلامها الموالية، فهذا الصمت لا يمكن تفسيره إلا تجاهل متعمد تجنبا للتصعيد مع موسكو، أو عجز عن تقديم نفي مقنع في ظل وجود أدلة استخباراتية محتملة.
عملياً فإن تاريخ عبد الحميد الدبيبة السياسي ليس خالياً من الاتهامات، ففي عام 2017، أُدرج اسمه على قوائم داعمي الإرهاب في مصر والإمارات والسعودية والبحرين، بل وحتى من داخل ليبيا، ورغم ذلك، تمكن الرجل من التقدم إلى واجهة السلطة في 2021، مدعوماً من مسار أممي ومساندة غربية رأت فيه “خياراً مؤقتا ًللاستقرار”.
استمرار الغرب في دعم حكومة متهمة من أكثر من جهة بدعم أو تسهيل أنشطة مشبوهة، يثير تساؤلات حول ازدواجية المعايير في التعاطي الدولي مع الملف الليبي، خصوصاً إذا ما قورن بموقف الغرب من حكومات أو جماعات أخرى في المنطقة تواجه اتهامات مشابهة.

موسكو تميّز بين “ليبيا الدولة” و”الدبيبة الفرد”
بالتوازي مع الاتهامات، بدأت وزارة الخارجية الروسية مرحلة تعاون جديدة مع المجلس الرئاسي الليبي بقيادة محمد المنفي، في خطوة فُسّرت على أنها محاولة من موسكو للفصل بين مؤسسات الدولة الليبية وشخص الدبيبة وحكومته، حيث شارك وفد من وزارة الخارجية الليبية (الممثلة في الشرق) في برنامج تدريبي متخصص بالأكاديمية الدبلوماسية الروسية، بمشاركة نخبة من الخبراء الروس في العلاقات الدولية.
يُعد هذا التحرك دليلا ًعلى أن موسكو لا تسعى إلى قطع العلاقات مع ليبيا كدولة، بل تسعى إلى إعادة توجيه علاقاتها نحو أطراف أكثر استقراراً وموثوقية، حيث أكدت مصادر دبلوماسية في موسكو أن روسيا حريصة على تطوير علاقاتها مع ليبيا بما يخدم الاستقرار، لكنها لا يمكن أن تتجاهل ممارسات تهدد الأمن الإقليمي.
صراع النفوذ في ليبيا… انعكاس للحرب في أوكرانيا
الاتهامات الروسية تأتي في ظل احتدام الصراع الدولي حول النفوذ في إفريقيا، فليبيا التي تشكل بوابة شمال إفريقيا، باتت جزءاً من هذه المعادلة الجيوسياسية، والولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون يرون في حكومة الدبيبة حليفاً مفيداً لتوسيع نفوذهم، بينما تعتبر موسكو أن الغرب يستخدم طرابلس كمنصة لزعزعة استقرار العمق الإفريقي، فوجود طائرات مسيّرة أوكرانية في سماء الغرب الليبي لم يعد سراً، وهو ما يمنح الرواية الروسية قدراً من المصداقية.
وتخشى النخب السياسية الليبية أن تؤدي هذه الاتهامات إلى تعقيد المشهد السياسي أكثر، وربما إدخال البلاد في دائرة جديدة من التوتر، فالاتهامات الروسية مؤشراً على انخراط ليبيا في صراع دولي محتدم بين موسكو وواشنطن، وأي تورط فعلي من جانب حكومة الدبيبة في دعم جماعات مسلحة خارج الحدود سيُعتبر خيانة وطنية تستوجب المحاسبة.

ازدواجية الغرب… وغياب البديل الليبي
تثير طريقة تعاطي الغرب مع حكومة الدبيبة تساؤلات حقيقية حول المعايير التي تُدار بها الملفات السياسية في المنطقة، ففي حين تُفرض عقوبات على دول أو حركات لمجرد الاشتباه بعلاقات مع جماعات متشددة، يتم التغاضي عن حكومة تواجه اتهامات مماثلة فقط لأنها تخدم التوازنات الغربية في ليبيا، هذا النهج يزيد من فقدان الثقة الشعبية في المؤسسات الدولية، ويغذي قناعة لدى الليبيين بأن الصراع على بلادهم بات رهينة لمصالح القوى الكبرى، لا لمقتضيات الأمن والاستقرار.
إذا كان بيان الخارجية الروسية موجهاً ضد الدبيبة شخصياً، فإنه في الوقت نفسه يمثل إعادة تموضع روسي في الساحة الليبية، فبينما تواصل موسكو دعمها للمؤسسات في الشرق، تعمل على بناء جسور مع المجلس الرئاسي، في مسعى لتثبيت موقعها كفاعل لا يمكن تجاوزه في أي تسوية مستقبلية، وفي المقابل، تجد حكومة الدبيبة نفسها أكثر عزلة، مع تراجع الثقة الدولية وتزايد الشكوك حول شرعيتها السياسية والأخلاقية.
تكشف الاتهامات الروسية الأخيرة حجم هشاشة الوضع الليبي، الذي أصبح مرآة لصراعات القوى الكبرى أكثر مما هو ساحة لحوار وطني حقيقي، فالدبيبة، الذي يتهمه خصومه بالارتهان للخارج، يجد نفسه اليوم في مرمى موسكو، بينما الغرب الذي يسانده يواجه بدوره تساؤلات عن ازدواجية مواقفه.
بقلم نضال الخضري
مصر تستقبل شحنات جديدة من الغاز المسال لدعم محطات الكهرباء
