تحمل ليبيا مفارقة خاصة، فمع معاناتها من فوضى الانقسام السياسي وفساد مؤسسات الدولة، يتنقل قادة الميليشيات كأباطرة بين إسطنبول ولندن وتورينو، في مشهد يعكس حجم الانحلال السياسي الذي يحكم غرب البلاد.
أحد أبرز قادة الميليشيات هو أسامة نجيم، رئيس “جهاز الشرطة القضائية” في طرابلس، الذي لم يكن اسمه مألوفاً للرأي العام الغربي حتى لحظة توقيفه في شمال إيطاليا بداية هذا العام، حيث أطلق سراحه بعد أقل من 48 ساعة من اعتقاله، وذلك رغم وجود مذكرة بحقه صادرة من المحكمة الجنائية الدولية، وهذا الأمر كشف مسألة معقدة حول ارتباط قادة الميليشيات بشبكة المصالح الأوروبية، فهم لا يفرضون سلطتهم فقط على الغرب الليبي، بل لديهم أيضاً القوة داخل العلاقات الدولية، ونفوذهم المالي أصبح عابراً للحدود.
من السجون السرية إلى الفنادق الأوروبية
حسب تقرير صحيفة التلغراف البريطانية، فإن أسامة نجيم، البالغ من العمر 45 عاماً، متهم بارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية تشمل التعذيب والاغتصاب والقتل خارج القانون والاتجار بالبشر، والمفاجأة لم تكن فقط بتلك الانتهاكات إنما بالوثائق التي عُثر عليها بحوزته عند توقيفه في تورينو الإيطالية، فـ”نجيم” كان يحمل بطاقات مصرفية من بنك باركليز وإتش إس بي سي البريطانيين، وبطاقات عمل من محام متخصص بالهجرة وصيدلية في الحي الصيني في لندن، كما كان بحوزته بطاقات دخول لفنادق في ألمانيا وإيطاليا، ما يشير إلى تنقل مستمر في أوروبا دون رقابة أو تتبّع، رغم أنه مطلوب للعدالة الدولية.
فتح توقيف نجيم أسئلة كثيرة، فهو شخص مطلوب وفق مذكرة توقيف دولية، لكنه تمكن رغم ذلك من دخول المملكة المتحدة، وهو أمر لا يمكن أن يحدث إلا بقرار سياسي، والأمر لا يقتصر فقط على دخوله إلى بريطانيا، فهو زار تركيا واستأجر شققاً راقية في مدينة إسطنبول، واستخدام حسابات مصرفية في دول يفترض أنها تطبّق العقوبات الدولية، ورغم ذلك لم يتم اعتقاله أو توقيفه، الأمر الذي يشير إلى أن القانون الدولي بات محكوماً بقواعد خاصة، وبمصالح سياسية تتجاوز كل القيم الخاصة بحقوق إنسان أو حتى مفاهيم العدالة والنزاهة والشفافية.
عملياً لم تكن البطاقات المصرفية فقط ما يُثير الشبهات في قضية أسامة نجيم، حيث تكشف السجلات التجارية التركية أنه شريك ومدير في شركة تُدعى الأصالة الذهبية 2 التي تتخذ من إسطنبول مقراً لها، وتعمل في استيراد وتصدير الحديد والصلب، وهي من أكثر القطاعات استخداماً في عمليات غسل الأموال وتمويل الميليشيات.
وهناك شركة أخرى باسم الأصالة الذهبية 1 ظهرت على بطاقات عمله، ورغم عدم وجود أي أثر لها في السجلات التركية، لكن المفارقة أن رقم الهاتف المسجل على البطاقتين هو رقم بريطاني يعمل عبر فودافون، وهو ما يعيد ربطه ببريطانيا رغم النفي الرسمي من الجهات التي وردت أسماؤها.
صفقة التهريب بين روما وطرابلس؟
تم توقيف نجيم يوم 19 يناير إيطاليا، وبعد أقل من 24 ساعة على إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحقه تم إطلاق سراحه قبل أن يُرحل سراً إلى ليبيا، وفجر هذا الأمر أزمة سياسية في إيطاليا التي وجدت نفسها وسط عاصفة من الانتقادات، وتعرضت رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني لضغوط متزايدة لكشف ملابسات الإفراج، وسط اتهامات بإبرام صفقة مع طرابلس لمنع قوارب المهاجرين من الإبحار، حيث تشير تقارير صحفية إلى أن نجيم، كونه المتحكم في طرق تهريب المهاجرين من غرب ليبيا، كان “ورقة ضغط” بيد السلطات الليبية لإقناع إيطاليا بالتعاون غير المعلن.
رغم أن حادثة الاعتقال والإفراج عن نجيم حدثت في إيطاليا لكن الوثائق أظهرت أنه يحمل جنسية تركية، وكان بحوزته ست بطاقات بنكية تركية، من بينها واحدة من بنك زراعات الحكومي الذي يعد من أكبر المصارف التركية، ولديه شريك تركي في الشركة المسجلة بإسطنبول يُدعى عبد الكريم مكتبي، وعلاقات نجيم بأنقرة ليست جديدة، فمنذ سنوات، وحسب تقارير من هيومن رايتس ووتش، يعتمد “جهاز دعم الاستقرار” التابع له على دعم لوجستي وتسليح تركي؛ يشمل طائرات مسيرة ومدربين عسكريين، والشركات التي يديرها اليوم في إسطنبول ليست سوى واجهة اقتصادية لامتدادات عسكرية – مالية مرتبطة بتحالفات إقليمية.
الاقتصاد الأسود للميليشيات
في طرابلس، يعيش نجيم حياة أشبه بالملوك، فهو يفرض “ضرائب” على البضائع الداخلة من ميناء طرابلس، ويتحكم في مطار معيتيقة، ويتقاضى مبالغ باهظة من شبكات التهريب، ويبتز أصحاب الأعمال المحليين تحت غطاء “الحماية الأمنية”، وبحسب تقارير دولية، فإن تهريب الوقود المدعوم وحده يدر ملايين الدولارات شهرياً، أما تجارة البشر، فهي أكثر خطورة وربحاً، فالمهاجرون الأفارقة يدفعون آلاف الدولارات للوصول إلى سواحل أوروبا، لكن كثيراً منهم ينتهي بهم المطاف في معتقلات تديرها ميليشيات نجيم، حيث يُحتجزون ويُعذبون ويُجبرون على العمل دون أجر، أو القتال.
وتظهر قضية نجيم بوضوح أن النظام الدولي، من محكمة لاهاي إلى الاتحاد الأوروبي، يواجه اختباراً حقيقياً، حيث يتحرك رجل متهم بالقتل والتعذيب والعبودية بين أوروبا وتركيا بكل حرية، بينما تتعامل الحكومات مع هذا الملف وكأنه لعبة توازنات سياسية، وذلك في وقت تقوم به الحكومات الأوروبية بإيقاف منظمات دولية في طرابلس بتهمة تقديم المساعدات للمهاجرين، لكنها تتجاهل تحركات نجيم، وتدخل في صفقات غير معلنة معه لوقف زحف قوارب المهاجرين نحو شواطئها.
أسامة نجيم ليس حالة استثنائية، بل نموذج لما أصبحت عليه ليبيا، حيث تتحكم الميلشيات بالدولة وتتلقى أيضا دعماً خارجياً، وتتحرك ككيانات مستقلة، لها شركاتها وحساباتها المصرفية، وجوازات سفر متعددة، ووفق هذا الواقع يصبح الحديث عن المساءلة أو العدالة عبثياً ما لم تعيد الدول الكبرى، من روما إلى أنقرة، حساباتها السياسية وتكشف عن كامل أوراقها، فالليبيون في الغرب يعيشون في ظل حكم الظل لأمراء الحرب مثل نجيم، الذين يديرون مصالحهم الخاصة فوق الأرض الليبية ومن غرف الفنادق الأوروبية أيضاً.
بقلم نضال الخضري