05 ديسمبر 2025

لم تكن الفوضى التي تعصف بالساحل الإفريقي وليدة الحاضر وحده، بل هي امتداد لخرائط استعمارية رُسمت على عجل وحدودٍ مصطنعة فصلت بين جماعات ودمجت بين أخرى دون اعتبار لتوازناتها التاريخية أو الاجتماعية.

ترك الاستعمار وراءه دولا هشة، فمؤسساتها المركزية متخمة بالعجز، وأطرافها الريفية والحدودية غارقة في التهميش، وهذا الإرث المثقل بالتجزئة واللامساواة لم ينطفئ برحيل المستعمر، بل سرعان ما اشتعل مع عودة التوترات العرقية والدينية وتفاقم هشاشة الأنظمة الحاكمة.

من مالي إلى بوركينا فاسو مرورا بالنيجر، تتجسد نتائج هذا التاريخ المنكسر في واقعٍ ملتهب، حيث تمددت الحركات الإرهابية والانفصالية والميليشيات المسلحة داخل فضاء صحراوي مترامي الأطراف، وجدت فيه ملاذا للتحرك والتجنيد والقتال، وبينما تتنافس القوى الدولية على بسط نفوذها فوق هذه الأرض الغنية بالموارد، يظل الإرث الاستعماري الخفي هو المحرك الأكبر للفوضى، إذ صاغ بيئة سياسية واجتماعية هشّة جعلت من الساحل الإفريقي إحدى أخطر بؤر القرن الحادي والعشرين.

تصاعد العنف المسلّح – أرقام مرعبة وحقائق صادمة

تشير المؤشرات الأممية والدولية إلى أن منطقة الساحل باتت اليوم تحتضن أكثر من نصف ضحايا الإرهاب في العالم، ففي عام 2024 وحده، شكّلت المنطقة 51% من مجمل وفيات العمليات الإرهابية عالميا، ووفق المؤشر العالمي للإرهاب، تضاعفت أعداد الوفيات في الساحل منذ 2019 قرابة عشرة أضعاف، وهو ما يعكس ديناميكية تصاعدية للعنف تفوق أي منطقة أخرى.

ورغم الجهود الدولية الممتدة لعقدين، فإن العمليات المسلحة ارتفعت سبع مرات ما بين 2017 و2022، والأخطر أن الجماعات الإرهابية نجحت في ملء فراغ الدولة، عبر تقديم نفسها في بعض المناطق كسلطة بديلة تؤمّن المحاكم والمدارس وتفرض أنماط حياة موازية.

خريطة الجماعات المتشددة

لم يعد المشهد الأمني في الساحل الإفريقي مجرد سلسلة من الاشتباكات المتفرقة أو هجمات عابرة، بل تحوّل إلى شبكة معقدة من التنظيمات المسلحة ذات الأهداف المتباينة والمرجعيات الأيديولوجية المتناقضة أحيانا، والمتقاطعة في جوهرها حول هدف واحد هو تقويض سلطة الدولة، فالمساحات الصحراوية الشاسعة، وضعف مؤسسات الحكم، وتنامي مشاعر السخط الشعبي على الفقر والتهميش، كلها عناصر صاغت بيئة مثالية لتكاثر هذه الجماعات وتحوّلها إلى لاعب رئيسي في معادلة الأمن والسياسة والاقتصاد.

هذا التمدد لم يقتصر على جماعات جهادية عابرة للحدود تستلهم خطاب “الخلافة” أو “الجهاد العالمي”، بل شمل أيضاً حركات انفصالية ذات طابع محلي، وأخرى ميليشياوية مرتبطة بمصالح ضيقة في القرى والبوادي، وبعض هذه التنظيمات يسعى لتأسيس سلطة بديلة تقوم مقام الدولة، عبر إدارة محاكم شرعية أو فرض نظم تعليمية، فيما يكتفي بعضها الآخر بالنهب والابتزاز لتمويل عملياته، وبهذا الضياع غدا الساحل مختبراً لتجارب مسلحة متشابكة، يصعب تفكيكها أو حصرها في إطار أمني تقليدي، ومن أبرز هذه المجموعات:

  • الجماعات الجهادية:
    أبرزها جماعة نصرة الإسلام والمسلمين (JNIM) المرتبطة بالقاعدة التي تسيطر على مساحات واسعة في مالي وبوركينا فاسو، وإلى جانبها يبرز تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى (ISGS)، وولاية غرب إفريقيا (ISWAP) المتفرعة عن بوكو حرام في نيجيريا والنيجر، هذه الجماعات جمعت بين العنف المباشر وإقامة سلطات محلية بديلة.
  • الجماعات الانفصالية:
    مثل الحركة الوطنية لتحرير أزواد، والحركة العربية لتحرير أزواد، التي رفعت السلاح وطالبت بدولة للطوارق في شمال مالي.
  • الميليشيات المسلحة غير المؤدلجة:
    مجموعات الدفاع الذاتي (VDP) التي تعمل أحيانا كمرتزقة لصالح الحكومات، لتأمين مناطق ريفية أو مواجهة خصوم محليين.

هذه الفسيفساء المسلحة جعلت من الساحل مسرحا مفتوحاً لصراع داخلي بلا نهاية واضحة.

إرث الاستعمار التقليدي – الجذور العميقة للفوضى

لا يمكن فهم تصاعد الحركات المتطرفة دون استحضار التاريخ الاستعماري، حيث خلّف الاستعمار الفرنسي على وجه التحديد إرثاً من التقسيمات المصطنعة بين الجماعات العرقية، وأقام مؤسسات هشة مركزية في العواصم، مع إهمال متعمّد للأطراف الريفية والحدودية.

هذا التوزيع غير المتوازن للسلطة والثروة جعل الريف بيئة خصبة للتجنيد والتمرد، كما أنّ الاعتماد على مقاربة أمنية بحتة بعد الاستقلال، دون تنمية أو عدالة اجتماعية، كرّس هشاشة الدولة، وأبقى الباب مفتوحا أمام عودة الاستعمار بصيغ اقتصادية وعسكرية جديدة.

سلاح الفوضى – من مخازن الجيوش إلى أيدي المسلحين

من أبرز معضلات الساحل أنّ الجماعات المسلحة لا تعتمد أساسا على إمدادات خارجية، بل تستحوذ على ترسانتها من مخازن الجيوش الوطنية نفسها، وتشير تقارير بحثية إلى أن خُمس أسلحة الإرهابيين مصدرها هجمات على الجيش في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، والأسلحة الحديثة التي بحوزة المتطرفين هي “غنائم” عبر معارك مباشرة، فيما يُعاد تدوير أسلحة قديمة من صراعات أخرى.

وفق هذا الواقع ضعف الجيوش الوطنية مصدرا لإعادة إنتاج الفوضى وتسليح الجماعات التي تحاربها، فكل هجوم ناجح على ثكنة عسكرية أو قافلة لوجستية يفضي عمليا إلى تجديد ترسانة الإرهابيين، ويحوّل موارد الدولة إلى أدوات ضدها، وهذا النمط المتكرر من “الاستحواذ القسري” على العتاد العسكري جعل الجماعات المتشددة أكثر قدرة على الصمود والاستمرار، بل وأكثر ثقة في إمكانية تحقيق اختراقات إضافية كلما انهارت خطوط الدفاع.

وافتقار هذه الجيوش إلى التسليح الحديث والتدريب الكافي، جعلها في موقع الحلقة الأضعف أمام خصوم يستفيدون من عنصر المفاجأة ومرونة الحركة في التضاريس الصحراوية الوعرة، وتحولت هذه الدائرة المفرغة إلى ما يشبه “اقتصاد حرب”، حيث يغدو كل صدام عسكري فرصة جديدة للجماعات المسلحة كي توسّع مخزونها من البنادق والرشاشات والقاذفات، وهذه الوقائع لا تكرس ضعف الدولة على مستوى السيادة الأمنية فقط، بل أيضا في وعي السكان المحليين الذين يرون في عجز جيوشهم دليلا على فقدان القدرة على الحماية، ما يدفع بعضهم مكرهاً أو طوعاً إلى الارتماء في أحضان تلك التنظيمات.

روسيا وبناء منظومة أمنية جديدة

في مواجهة هذا الفراغ، برز الدور الروسي كفاعل رئيسي في إعادة صياغة معادلات القوة في الساحل، فعبر فيلق إفريقيا ( (Africa Corpsقدّمت موسكو التدريب العسكري، والمعدات، والدعم الاستشاري لحكومات مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

وزيارات وزراء هذه الدول إلى موسكو في 2025 أكدت على انخراط روسي واسع في بناء هياكل أمنية بديلة عن فرنسا، فالاستراتيجية الروسية تقوم على دعم الجيوش وتوفير غطاء عسكري واقتصادي، مع مشاريع للطاقة النووية والبنى التحتية وتطوبر الموارد الطبيعية كالليثيوم واليورانيوم.

هذا التوجه شجّع دول الساحل على التحرر التدريجي من التبعية للغرب، وإقامة علاقات استراتيجية أكثر توازنا.

الاتحاد الكونفدرالي – بين الواقع والطموح

مع أفول مشروع G5  الساحل الذي رعته فرنسا، وتراجع فعالية الإيكواس (ECOWAS) بفعل الانقلابات، نشأ إطار بديل هو تحالف دول الساحل  Alliance of Sahel Statesالذي يضم مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وهذا التحالف يتجه نحو بناء منظومة كونفدرالية تركز على الأمن والدفاع المشترك، مع حضور روسي داعم.

ورغم أن المشروع لا يزال في بداياته، فإنه يعكس تحوّلا استراتيجيا في توجهات الدول الثلاث نحو التحرر من الإرث الفرنسي الذي أثقل كاهل المنطقة لعقود، فهذه الدول ترى في بناء تحالف كونفدرالي فرصة لابتكار صيغة إقليمية بديلة، تتجاوز الأطر التقليدية التي أثبتت عجزها مثل مجموعة الساحل الخماسي و”الإيكواس”، ويهدف هذا التوجه إلى صياغة مقاربة أمنية مشتركة قادرة على مواجهة الإرهاب العابر للحدود، مع تعزيز التعاون الاقتصادي بما يتلاءم مع خصوصيات المنطقة ومواردها، والسعي إلى إرساء بنية تحتية عسكرية أكثر استقرارا واستقلالية، فهذا التحالف الوليد أكثر من مجرد مناورة ظرفية، بل محاولة لإعادة هندسة موازين القوى في الساحل الإفريقي.

الإرهاب كمرآة لفشل الدولة والاستعمار

يكشف تصاعد الإرهاب في الساحل عن تفاعل ثلاث دوائر كبرى: إرث الاستعمار الذي خلّف دولا هشة ومنقسمة، وتآكل الأنظمة التي لم تُنتج شرعية أو تنمية، وصراع القوى الكبرى على الموارد والنفوذ.

روسيا بدورها تقدّم نفسها كحليف استراتيجي بديل، يسعى إلى بناء مؤسسات أمنية محلية وتعزيز استقلال القرار السيادي، ونجاح هذا المسار يتوقف على مدى قدرة دول الساحل على تجاوز البعد الأمني وحده، والانخراط في مشاريع تنموية تعالج جذور الفقر والتهميش، وإلا سيبقى الإرهاب قادرا على إعادة إنتاج نفسه عبر أجيال جديدة من المهمشين واليائسين.

بقلم مازن بلال

مباحثات روسية مغربية حول قضية الصحراء الغربية وتعزيز التعاون الثنائي

اقرأ المزيد