جاء مقترح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بترحيل سكان قطاع غزة إلى مصر والأردن ليشكل أزمة إقليمية جديدة، فالتهجير الذي يقترحه ينقل صورة قاتمة لتفكير الإدارة الأمريكية بمستقبل الشرق الأوسط.
المقترح الأمريكي يحمل هدفا واضحا وصريحا في تشتيت البيئة الاجتماعية في غزة، وإفقاد حركة حماس من العنصر البشري الذي مكنها من البقاء لأكثر من عام رغم الحرب التي وصفت بأنها “حرب إبادة” ضد سكان القطاع.
ولكن مسألة التهجير لا تبدو جديدة فمنذ بداية الحرب في أكتوبر 2024 ظهرت مخاوف حقيقية من هذا الموضوع، وطريقة التدمير الممنهج للقطاع حملت في بعض أبعادها ضغطا على السكان الذي باتوا يعيشون في مخيمات متنقلة، لكن مصر والأردن ورغم الظروف الإنسانية الصعبة لأهل قطاع غزة منعوا أي عمليات نزوح جماعي، واقتراح ترامب يأتي ليجدد مخاوف الدولتين من عملية تغيير ديموغرافي واسعة النطاق.
خلفية المقترح
قدم الرئيس ترامب خطته وفق تصور إنساني يسعى لتوفير بيئة مختلفة جديدة، لكن الشكل السياسي لها لا يمكن إخفاؤه لأنه يحمل “تطهير” القطاع عبر نقل نحو 1.5 مليون من سكانه إلى الدول المجاورة، مصر والأردن، بشكل مؤقت أو دائم، مع وعود بإعادة بناء حياتهم في أماكن جديدة، وأشار ترامب إلى مناقشات أجراها مع العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، وخطط للحديث مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
ويثير المقترح الأمريكي مخاوف عميقة بين الفلسطينيين، الذين يرونه ليس تكرارا لتجربة النكبة عام 1948 فقط، بل يشكل أيضا بداية لعمليات تهجير إضافية من الضفة الغربية التي تشكل أيضا أزمة بالنسبة لإسرائيل.
والتوازن الديموغرافي داخل دولة إسرائيل بقي هاجسا منذ تأسيسها حتى اليوم، ورغم كافة عمليات الاستيطان على الأخص بعد عام 1967، لكن توازن السكان بقي لصالح الفلسطينيين، فالتهجير اليوم يشكل بمختلف مبرراته إعادة تشكيل النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي عبر خلق شتات فلسطيني جديد، ودفع الدول المجاورة لإسرائيل لتحمل ثمن ثقيل ليس على الصعيد الاقتصادي، بل أيضا في تطويع المجتمع الفلسطيني للتخلي عن حل الدولتين.
المقترح في خلفياته السياسية
كان من المفترض وفق اتفاقيات أوسلو أن تظهر دولة فلسطينية خلال السنوات الماضية وبشروط خاصة تجعلها منزوعة السلاح، لكن هذا الاتفاق لم يتم وبقي جزءا من الحلول التي تراكمت في تاريخ الموضوع الفلسطيني.
والرئيس الأمريكي منذ ولايته السابقة أعلن أكثر من مرة عن انتهاء حل الدولتين، وسعى لخلق اتفاقات جديدة تتجاوز الفلسطينيين وهو ما عرف بالاتفاقيات الإبراهيمية، وهو اليوم يضع إطارا خاصا لتصفية حل الدولتين عبر مسألة التهجير، فيركز على حجم الدمار في غزة، معتبرا أن إعادة توطين السكان هي حل مؤقت للخروج من الظروف القاسية التي يعيشونها.
واستقبل العديد من الإسرائيليين المقترح عبر الترحيب به، حيث أن تفريغ غزة من سكانها يمكن وفق تصورهم أن يساهم في تحقيق استقرار طويل الأمد في المنطقة، لكن الجانب العربي هو المعني بالأمر لأنه لن يستقبل حالات هجرة فردية بل نقل مجتمع بأكمله إلى أراضيه، وهذا الأمر يحمل مخاطر حقيقية تزعزع استقرار الدول على الأخص أن التهجير لا يبدو طوعيا بل مفروضا على سكان القطاع.
عمليا، رفضت كل من مصر والأردن الفكرة بشكل قاطع، وشددتا على أن مثل هذه الخطوة تزعزع استقرارهما، وأكد وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي أن الحل الوحيد يكمن في تطبيق حل الدولتين، رافضا أي توطين للفلسطينيين، بينما اعتبر الفلسطينيون هذا المقترح تهديدا وجودياً لهويتهم الوطنية وحقوقهم التاريخية في الأرض، فالرفض السياسي ينطلق من اعتبار هذا المقترح خروجا صارخا عن كل المبادئ التي ظهرت عليها عملية السلام، وحالة التطبيع مع إسرائيل.
الرؤية الخاصة للرئيس الأمريكي
ويشكل ترحيل أكثر من مليون شخص مشروعا يتطلب موارد هائلة، وبالنسبة لطبيعة تفكير الرئيس الأمريكي فإنه فينفس الوقت يشكل فرصا استثمارية للدول المضيفة، فهناك خلفية واضحة للمقترح مرتبطة بجعل الاستثمار مترابط في المنطقة ليشكل قاعدة أي حل سياسي، فتدفق اللاجئين سيؤدي لتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في مصر والأردن، لكنه في المقابل يشكل أرضية لدفع المال الخليجي نحو تلك الدول وإشراكها في الحل السياسي عبر الاستثمارات الخاصة بالمجتمع الفلسطيني الذي تم تهجيره.
في المقابل يمكن أن يؤدي المقترح إلى تصعيد الصراع عبر جانبين: الأول رفض أهل غزة لعمليات التهجير، والجانب الثاني هو الصدام المحتمل مع المجتمعات المُضيفة في مصر والأردن، وهذا التصعيد سيخفف العبء عن إسرائيل لأن التوتر الذي سيحدث لا يعنيها بشكل مباشر، وهو سيجعل السياسة الإقليمية تتجه نحو عملية تغيير في مسار السلام مع إسرائيل ليصبح باتجاه استيعاب مجتمعات فقيرة وغاضبة ولها توجهات سياسية لا تتوافق مع الدول التي استقبلتها.
والشرق الأوسط في ظل السلام الذي يفكر به الرئيس الأمريكي ينطلق من تبديل كل المعطيات الخاصة بالنزاع الذي كان طوال العقود الماضية على “الأرض مقابل السلام”؛ ليصبح ضمن نطاق آخر هو الصراع على السكان الذين أصبحوا وفق منطق التهجير هم الأزمة الحالية.
ويعكس مقترح الرئيس ترامب لترحيل سكان غزة خطوة ستؤدي إلى تداعيات كارثية على المنطقة، بحجة إنهاء الأزمة الإنسانية، فإنه يتجاهل الحقائق السياسية والاجتماعية المعقدة للنزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، فالتركيز على حلول تعزز العدالة والاستقرار هي بالتأكيد بعيدة جدا عن مسألة التهجير المطروحة بقوة اليوم.
بقلم: مازن بلال