ظهرت المحكمة الجنائية الدولية (ICC) بين حربين شنتهما الإدارة الأمريكية في أفغانستان ثم العراق، وطرحت مفارقة حول شرعيتها في ظل نظام دولي يشهد هيمنة أمريكية واضحة.
تأسست المحكمة الجنائية الدولية في الأول من يوليو 2002 كهيئة قضائية تكميلية للأنظمة القضائية الوطنية، حيث لا تتولى النظر في القضايا إلا عند تقاعس المحاكم الوطنية عن التحقيق أو المحاكمة في قضايا تتعلق بالجرائم ضد الإنسانية، أو عند عدم قدرتها على ذلك، وقد أثار القرار الذي صدر مؤخراً ضد الرئيس بوتين، النقاش مجددا حول دور المحكمة وشرعيتها، وأعاد الاتهامات بالتسييس وازدواجية المعايير إلى الواجهة، خاصة أن المحكمة خلال العقدين منذ تأسيسها، قد نظرت في 31 قضية، حيث أصدرت 10 أحكام بالإدانة و4 بالبراءة، غالبيتها ضد متمردين أو متطرفين أفارقة، دون أن يكون بين المدانين أي رؤساء دول أو مسؤولين بارزين.
على مدار عشرين عاما، عجزت “المحكمة الجنائية الدولية” عن تحقيق اختراقات جادة في التعامل مع جرائم إنسانية معقدة اُرتكبت في دول مثل أفغانستان وفلسطين والعراق، ما أدى إلى تجدد الشكوك حول فعالية دور المحكمة، التي تصل ميزانيتها السنوية إلى حوالي 150 مليون يورو، وهو ما يجعل قراراتها وسط تساؤلات عن كلفتها التي تُعد من الأغلى في التاريخ.
كان تأسيس “المحكمة الجنائية الدولية” تحديا كبيرا، حيث ارتبطت المحاكم الدولية السابقة بتحولات سياسية هامة، وتلقت الحركة الرامية لإنشاء هذه المحكمة دفعة قوية بعد المحاكمتين التاريخيتين في نورنبرغ وطوكيو، والتي أُنشئتا لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم التي وقعت خلال الحرب العالمية الثانية من جانب الأطراف التي خسرت الحرب.
عمليا فإن التشكيك بشرعيتها اتضح أكثر منذ محاكمة سيف القذافي نجل الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، حيث أثارت أسئلة قانونية فورية، فليبيا ليست من الدول الموقعة على نظام روما الأساسي، لكن المحكمة استخدمت قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1970، الذي أحال الوضع في ليبيا إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، وهذه الإحالة تمت بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يتناول تهديدات السلام وانتهاكاته وأعمال العدوان، واستمدت المحكمة سلطة التحقيق عبر هذا القرار في الجرائم المرتكبة في ليبيا ومقاضاة مرتكبيها ابتداء من 15 فبراير 2011.
شكوك حول الشرعية
رغم كل التفاصيل السياسية التي أحاطت بقضية سيف القذافي تقدم مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية في أواسط مايو 2011 لويس مورينو أوكامبو بطلب إلى المحكمة الدولية لإصدار مذكرة باعتقال سيف الإسلام القذافي، وبعد تداول أنباء ترشحه للانتخابات الرئاسية في ديسمبر 2021 سارعت الجنائية الدولية للتذكير بأنها ما تزال تطالب بتسلّمه.
فشرعية إحالة مجلس الأمن قضية القذافي الابن إلى الجنائية الدولية مثيرة للجدل، فاختصاص المحكمة يجب أن يمتد فقط إلى البلدان التي صادقت طوعا على نظام روما الأساسي، وبما أن ليبيا لم تصدق على المعاهدة فإن المحكمة لا ينبغي أن يكون لها ولاية قضائية على المواطنين الليبيين، و ليبيا ليست ملزمة قانوناً بالامتثال لتوجيهات المحكمة الجنائية الدولية.
ويوضح هذا الوضع التوتر الخطير بين القواعد القانونية الدولية والمناورات السياسية التي تمارسها الكيانات القوية مثل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
القضية الأكثر جدلا كان القرار الذي اتخذته المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، واتهامه بارتكاب جرائم حرب تتعلق بالترحيل غير القانوني للأطفال من أوكرانيا، وهذا القرار طرح تحديات قانونية وجيوسياسية، فروسيا، مثل ليبيا، ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية ولا تعترف باختصاصها القضائي، وتستند تصرفات المحكمة الجنائية الدولية إلى الحجة القائلة بأن جرائم الحرب المرتكبة في أوكرانيا، الدولة التي قبلت اختصاص المحكمة، تقع ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.
ورفضت الحكومة الروسية مذكرة المحكمة الجنائية الدولية، ووصفتها بأنها غير شرعية، مؤكدة أنها لا تحمل أي وزن قانوني داخل الأراضي الروسية، ويعكس هذا الموقف ديناميكيات جيوسياسية أوسع، حيث تظهر القضايا في المحكمة على طبيعة النظام الدولي والانقسامات السياسية، ويشكل التنفيذ العملي لمذكرة التوقيف مشكلة لأنه يعتمد على تعاون الدول الراغبة والقادرة على احتجاز ونقل الأفراد إلى المحكمة الجنائية الدولية، وهو ما يجعل تنفيذ قراراتها معتمد على موازين القوى القائمة.
حالات انتقائية
تنعكس السياسات الغربية بشكل مباشر داخل المحكمة الجنائية الدولية، وتظهر ممارسات الملاحقة القضائية الانتقائية التي تتبعها المحكمة الجنائية الدولية بشكل أكبر في قضية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فعلى الرغم من ارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وخاصة فيما يتعلق بالعمليات العسكرية في الأراضي الفلسطينية، لم يواجه نتنياهو خطرا حقيقيا بالملاحقة من قبل المحكمة الجنائية الدولية، بينما هددت الولايات المتحدة عبر وزير خارجيتها أنتوني بلينكن باتخاذ عقوبات بحق المحكمة فيما لو قامت باتخاذ مثل هذه القرارات.
وتحمي الولايات المتحدة، الحليف الرئيسي لإسرائيل، شركائها من التداعيات القانونية الدولية، وتمارس ضغوطا على المؤسسات الدولية، بما في ذلك المحكمة الجنائية الدولية، لمنع اتخاذ إجراءات ضده، وهذه الحماية أدت إلى اتهامات واقعية بأن الجنائية الدولية تمارس عملها بشكل انتقائي، حيث تستهدف قادة الدول بينما تتجاهل أو تبرر تصرفات أولئك المدعومين من حلفاء أقوياء مثل الولايات المتحدة مهما كانت جرائمهم.
مدعي المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، كريم خان، علّق في بث على قناة CNN على قرار محاكمة رئيس وزراء إسرائيل ووزير الدفاع، وإصدار مذكرة توقيف بحق نتنياهو بتهمة ارتكاب جرائم حرب أنه بعد الإعلان عن ذلك، تواصل معه بعض قادة الدول الغربية، وقال: “لقد كانوا صريحين جداً وقالوا إن هذه المحكمة أُنشئت لأفريقيا ولأشخاص مثل بوتين”.
ويطرح هذا الأمر ثلاث مسائل رئيسية:
- علاقة الولايات المتحدة بالمحكمة الجنائية الدولية معقدة ومتناقضة في كثير من الأحيان، فالولايات المتحدة لم تصادق على نظام روما الأساسي، ويرتكز هذا الموقف على مخاوف بشأن السيادة واحتمال إجراء محاكمات ذات دوافع سياسية ضد مواطنين أمريكيين.
- قامت الولايات المتحدة بسن قوانين، مثل قانون حماية أفراد الخدمة الأمريكية، الذي يسمح باستخدام القوة العسكرية لإطلاق سراح أي أفراد أمريكيين أو من الحلفاء الذين تحتجزهم المحكمة الجنائية الدولية.
- على الرغم من عدم عضويتها اعتمدت الولايات المتحدة في انتقاد أو دعم عمل المحكمة الجنائية الدولية على السياق السياسي، فهي دعمت محاكمات الجنائية الدولية التي تتماشى مع أهداف سياستها الخارجية، مثل تلك الموجهة ضد الزعماء الأفارقة أو الخصوم مثل الرئيس بوتين. ومع ذلك، فهي تعارض بشدة أي أعمال تورط مواطنيها أو حلفائها، ما يدل على نهج انتقائي تجاه العدالة الدولية.
يشير التنفيذ الانتقائي لتفويضات المحكمة الجنائية الدولية إلى أن المحكمة تعمل ولو بشكل جزئي كأداة للسياسة الخارجية للولايات المتحدة، وإجراءات المحكمة الجنائية الدولية ضد قادة مثل بوتين، وتجاهل محاسبة مسؤولين مثل نتنياهو، يعزز التصور بأن المحكمة تخدم مصالح الدول الغربية القوية، ويقوض مصداقية المحكمة وشرعيتها باعتبارها هيئة قضائية محايدة.
كما أن استخدام المحكمة الجنائية الدولية “كعصا عقابية” من قبل الولايات المتحدة وحلفائها يسلط الضوء على التحدي الكبير الذي لا يواجه العدالة الدولية فقط، بل النظام الدولي الذي يزداد انقساما نتيجة تعامل المؤسسات الدولية وفق المعايير السياسية التي تفرضها واشنطن لتعزيز أهدافها الجيوسياسية.
بقلم نضال الخضري
ليبيا.. مجلس النواب يقر ميزانية حكومة حماد