تشهد القاهرة تحركاً دبلوماسياً لا يخلو من الرمزية، فالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي التقى في نفس اليوم، 30 يونيو 2025، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة السوداني، والمشير خليفة حفتر، القائد العام للقوات المسلحة العربية الليبية، بمدينة العلمين الساحلية.
هذا التزامن يرسم ملامح استراتيجية للسياسة المصرية على المستوى الإقليمي، حيث تسعى القاهرة لإعادة تشكيل دورها الإقليمي، ليس فقط كجار قلِق من انتقال الفوضى، بل كوسيط فاعل يسعى لضبط الإيقاع الأمني والسياسي في محيطه المضطرب.
هناك ثلاث عناصر أساسية يمكن قراءتها لفهم التعامل المصري مع أزمتين معقدتين، ولكنهما تمثلان تهديداً إقليمياً مباشراً نتيجة الجوار الجغرافي لمصر مع السودان وليبيا، فهناك: السياق الأمني – الإنساني، وآليات الفاعلين المحليين والإقليميين، ثم أدوات التأثير المتاحة للدولة الفاعلة.

السودان: الاحتواء عبر دعم المؤسسة العسكرية
في أزمة السودان، تتحرك مصر بوعي استراتيجي مدفوع بضرورات الأمن القومي والجوار الجغرافي المعقد، فهي ترى في الجيش السوداني صمام أمان للدولة المهددة بالتفكك، وتتعامل مع الأزمة ليس فقط كصراع داخلي، بل كتهديد مباشر لحدودها ومصالحها، ويتخذ الدور المصري طابعاً يتجاوز الدعم السياسي نحو الوساطة والبناء لما بعد الحرب.
- السياق الأمني والإنساني:
الأزمة في السودان تزداد تعقيداً، فالانقسام العنيف بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع أفرز وضعاً إنسانياً كارثياً ومخاطر أمنية حدودية جسيمة، وما يدفع القاهرة للتحرك هو أعداد النازحين والانهيار الاقتصادي الذي وصل لمرحلة المجاعة، إضافة للتوترات العابرة للحدود.
- أدوات التأثير المصرية:
حددت مصر موقفها بدقة من خلال دعم الجيش السوداني باعتباره المؤسسة الوطنية الشرعية، والعمل مع الحلفاء خصوصاً عبر “الرباعية الدولية” (السعودية، الإمارات، والولايات المتحدة) – لإعادة ضبط المعادلة، ويُضاف إلى ذلك احتضان مبادرات “دول الجوار”، وتقديم عروض إعادة إعمار السودان عبر شركات مصرية.
- الرسالة الرمزية:
اللقاء المباشر مع البرهان في العلمين، على ساحل البحر المتوسط، أتى كتثبيت للشرعية، ورد عملي على تصريحات عدائية من الدعم السريع مؤخراً تجاه مصر، فالقاهرة لم تدخل في سجال إعلامي، بل ردت بلقاء رسمي على أعلى مستوى، يؤكد أن دعمها لا يزال للمؤسسات، وليس للميليشيات.

ليبيا: بين الأمن القومي ومواجهة المحاور الخارجية
تمثل ليبيا لمصر أكثر من مجرد أزمة حدودية؛ فهي ملف حيوي متشابك مع أمنها الداخلي وسيادتها الإقليمية، وأي فوضى في ليبيا تفتح المجال لتدخلات إقليمية تهدد التوازن غرباً، وهو ما جعل القاهرة ترى في استقرار ليبيا جزءاً لا يتجزأ من أمنها القومي، ومن هذا الأمر يركز الدور المصري على دعم المسار السياسي وتثبيت المؤسسات الأمنية، خاصة عبر التحالف الوثيق مع الجيش الوطني الليبي.
- الجغرافية السياسية
ليبيا ليست مجرد جار غربي لمصر، بل خاصرة استراتيجية مفتوحة على احتمالات أمنية واقتصادية معقدة، حيث تمتد الحدود بين البلدين لأكثر من 1000 كيلومتر من الأراضي الصحراوية الوعرة، ما يجعل أي خلل أمني في الداخل الليبي ينعكس فوراً على الأمن المصري، سواء عبر تهريب السلاح، أو تسلل العناصر المتطرفة، أو حتى موجات النزوح غير المنضبط.
في ظل غياب الدولة الليبية المركزية، تحوّلت البلاد إلى ساحة مفتوحة لتدخلات إقليمية ودولية متضاربة، ما دفع القاهرة إلى التمسك برؤية صارمة، فهي ترى أن لا استقرار في ليبيا إلا من خلال جيش موحّد، وقيادة سياسية نابعة من الداخل، وخارطة طريق تنهي الانقسام، وتجاهل هذه المعادلة يعني ترك الجبهة الغربية لمصر عُرضة للتقلبات، وهو ما لا يمكن لصانع القرار المصري السماح به.

- دعم المسار السياسي–العسكري:
شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال لقائه مع المشير خليفة حفتر على دعم مسار سياسي شامل يبدأ بوضع خارطة طريق واضحة المعالم، تتضمن إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية موحدة تحت مظلة توافق وطني، كخطوة حاسمة نحو إنهاء الانقسام المؤسساتي في البلاد، وأكد على ضرورة توحيد المؤسسة العسكرية الليبية تحت قيادة وطنية واحدة، باعتبارها الركيزة الأساسية لأي استقرار حقيقي.
كما طرح السيسي موقفاً صارماً بشأن ضرورة إخراج القوات الأجنبية والمرتزقة من الأراضي الليبية، لما تمثله من تهديد مباشر للسيادة وإطالة أمد الفوضى، ومجمل هذه الطروحات تعكس رؤية مصرية لا تكتفي بالتهدئة أو إدارة الأزمة، بل تسعى إلى بناء دولة ليبية مركزية وقادرة، تملك مؤسسات موحدة وتحظى بشرعية شعبية ومشروعية دولية.
- البُعد الاقتصادي:
أشاد المشير خليفة حفتر خلال لقائه مع الرئيس المصري بالتجربة التنموية التي حققتها مصر في السنوات الأخيرة، خاصة في مجالات البنية التحتية والإسكان والطاقة، معرباً عن رغبته في الاستفادة من هذه الخبرات، كما عبّر عن استعداده لفتح الباب أمام الشركات المصرية لتنفيذ مشروعات تنموية واسعة، في خطوة تشير إلى توجه نحو شراكة استراتيجية اقتصادية–سياسية.
هذا التوجه لا يعكس فقط تبادل مصالح آنية بين الطرفين، بل يكشف عن رؤية مصرية أوسع تعتبر أن استقرار ليبيا لا يحمي فقط حدودها، بل يتيح أيضاً فرصاً استثمارية حيوية لنمو الاقتصاد المصري، وتعزيز نفوذها في فضاء جغرافي كانت قوى إقليمية أخرى تحاول ملأه، فالقاهرة لا تسعى فقط لحماية أمنها القومي، بل لبناء عمق اقتصادي مستدام في ليبيا ما بعد الصراع.

المشهد الإقليمي: وساطة بدوافع وطنية
عانت مصر تاريخياً، من توترات وتصعيد على الحدود، وتدرك القاهرة جيداً أن التوتر في السودان أو ليبيا يعني بالضرورة مخاطر تسلل سلاح، تهريب، وتيارات متطرفة، وسعيها لفرض الاستقرار ليس فقط بدافع إقليمي، بل من منطلق حماية أمنها القومي.
وجاء انضمام مصر لـ”الرباعية الدولية” مؤشراً على استعادة القاهرة لدورها كشريك موثوق في هندسة الحلول الإقليمية، بعد سنوات من التراجع النسبي، ففي ملف السودان، استطاعت القاهرة أن تفرض نفسها كصاحبة مصلحة مباشرة، لا مجرد مراقب، وما بين الدعم السياسي الصريح للمؤسسات، والعلاقات المفتوحة مع مختلف الفرقاء، تُحاول مصر اللعب على الخيط الدقيق بين التدخل المباشر والوساطة النشطة، ولقاء السيسي مع البرهان وحفتر يجسّد هذا التوازن.

الرسائل الاستراتيجية من لقاءات العلمين
تزامن اللقاءان في ذات اليوم لم يكن مجرد ضغط جدول رئاسي، بل رسالة دبلوماسية مركّبة، فمصر تحتضن القادة العسكريين في البلدين، ما يعني دعمها للمؤسسات الرسمية لا الفصائل، والعلمين أصبحت منصّة دبلوماسية، تُقدم مصر كعاصمة حلول إقليمية، وفي نفس الوقت تربط القاهرة بين المسارين السوداني والليبي، باعتبار أن الاستقرار في أحدهما يعزز الآخر.
التحركات المصرية الأخيرة تعبّر عن عودة القاهرة إلى واجهة الوساطة الإقليمية، لكنها هذه المرة لا تتحرك بشعارات أو مبادرات شكلية، بل بأدوات حقيقية، فهي تقوم بدعم المؤسسات، وبالتحالفات الدولية، وبنفوذ ميداني على الأرض، فهي تسعى لجعل محيطها أقل اضطراباً لحماية حدودها وتعزيز نفوذها الإقليمي.
بقلم: نضال الخضري
مصر تصدر أول ضوابط لإنشاء المنصات الرقمية للاستثمار العقاري
