كان من المفترض أن يكون توقيع ميثاق المصالحة في أديس أبابا في 14 فبراير 2025 حدثاً بارزاً في سعي ليبيا إلى المصالحة الوطنية، لكنه كشف الانقسامات العميقة داخل المشهد السياسي الليبي.
ورفض ممثلو المجلس الرئاسي الليبي وبشكل دراماتيكي التوقيع على الاتفاق في اللحظة الأخيرة، وخلق موقفهم إرباكاً في الإجراءات، وإفشالاً متعمداً لأشهر من الجهود الدبلوماسية التي قادها الاتحاد الإفريقي، وذلك بعد الجهود في المنتدى بوصفه فرصة تاريخية لتعزيز الوحدة والاستقرار في ليبيا، وكشفت تصرفات ممثلي المجلس الرئاسي عن طبيعة المناورات السياسية التي تعامل معه المجلس للحفاظ على مصالح طرف سياسي مرتبط بحكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية.
حضور منقسم
الحدث الذي تم تنظيمه تحت رعاية الاتحاد الإفريقي وترأسه الرئيس دينيس ساسو نغيسو من جمهورية الكونغو، جمع بين مختلف الفصائل الليبية وأطراف دولية منخرطة في الأزمة الليبية، لكن تجاهل رئيس الوزراء منتهي الصلاحية، عبد الحميد الدبيبة، المنتدى بشكل كامل، سرعان ما أضعف الآمال في التوصل إلى اتفاق شامل.
وكان مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، أو على الأقل الداعمون لخالد المشري، حاضرين وأظهروا التزاماً أكبر بالعملية، بالإضافة إلى ذلك، أبدى ممثلو الشرق الليبي مرونة سياسية وروحاً توافقية، وممثلون متحالفون مع سيف الإسلام القذافي، نجل الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، أشاروا إلى نيتهم في المضي قدماً في المصالحة، ما يعكس توجهاً نحو إعادة تنظيم متزايدة في المشهد السياسي المعقد في ليبيا.
لكن اللحظة الأكثر دراماتيكية عندما انسحب ممثلو المجلس الرئاسي، بقيادة نائب الرئيس موسى الكوني، فجأة من حفل التوقيع، وبرروا الانسحاب بغياب ممثلين أقوياء من شرق ليبيا رغم حضور بلقاسم حفتر ممثلاً عنه، وعدم الرضا عن القانون الذي تبناه مجلس النواب مؤخراً، وهو الإطار القانوني الذي يحكم المصالحة والذي اعتبروه “غير مناسب”، ورفض المراقبون هذه الأسباب باعتبارها واهية، واتهم العديد المجلس الرئاسي باستخدام ذرائع غير حقيقية لإخفاء إحجامه عن الالتزام بعملية خارجة عن سيطرته.
وأصدر الكوني في وقت لاحق بياناً يأسف فيه على غياب كبار وسطاء السلطة الليبية، بما في ذلك من يتزعم الأطراف الليبية في الشرق والغرب، وزعم أن فشلهم في الحضور جعل الميثاق غير مكتمل وغير تمثيلي، ويوضح تصرف الكوني عدم رغبة المجلس الرئاسي في التنازل عن السلطة لصالح أجندة المصالحة.
تقويض جهود الاتحاد الإفريقي
عمل الاتحاد الإفريقي طويلاً من أجل المصالحة الليبية، واستخدم نفوذاً سياسياً واسعاً في عملية السلام الليبية على مدى السنوات الثماني الماضية، ومنذ إطلاق لجنته رفيعة المستوى بشأن ليبيا تحت قيادة الرئيس نغيسو في عام 2017، سعى الاتحاد الإفريقي إلى وضع نفسه كوسيط محايد، وكان من المفترض أن يكون توقيع الميثاق تتويجاً لهذه الجهود، وتوفير إطار للعدالة الانتقالية، والتعويضات، وخريطة طريق سياسية نحو الانتخابات.
لكن المشهد الأخير في أديس أبابا بدى محبطاً، وظهر كنوع من “التفشيل” المتعمد لعمل الاتحاد الإفريقي، وكشف حجم المصالح الدولية، والغربية على وجه الخصوص، في احتكار التعامل مع الأزمة الليبية.
ودفع الأطراف المتعاملة معها إلى وضع نهاية مأساوية للجهد الإفريقي، حيث عزز المشهد في أديس أبابا طبيعةخضوع بعض الأطراف الليبية لمصالحها الضيقة المرتبطة بجهات خارجية في أوروبا والولايات المتحدة.
ووصف مفوض الاتحاد الإفريقي للشؤون السياسية والسلام والأمن بانكول أديوي التوقيع بأنه “خطوة تاريخية”، لكن مسؤولين من الاتحاد الإفريقي أعربوا في أحاديث خاصة عن إحباطهم إزاء رفض القيادة الليبية تجاوز صراعات السلطة الضيقة.
الفائزون والخاسرون
ظهر المجلس الرئاسي وحكومة طرابلس كأطراف معرقلة، وظهرت بعض الأطراف كجهات فاعلة عملية راغبة في العمل من أجل تحقيق الوحدة الوطنية، وعلى الرغم من التوترات الداخلية، نجح مجلس النواب في تأمين الشرعية من خلال تأييد الميثاق، وعلى نحو مماثل، تميز المجلس الأعلى للدولة المتحالف مع خالد المشري عن منافسيه في طرابلس من خلال المشاركة البناءة في العملية.
وحظي الوفد الذي يمثل سيف الإسلام القذافي، بقيادة علي أبو صبيح وشخصيات أخرى من النظام السابق، باهتمام خاص، فأكد وجودهم على استمرار الموالين للقذافي كقوة سياسية، وخاصة في جنوب ليبيا وأجزاء من الغرب، ومن خلال تبني المصالحة، سعى أنصار سيف الإسلام إلى إعادة صياغة أنفسهم كبناة جسور، قادرين على تجاوز الانقسام المستقطب بين الشرق والغرب، كما حققت السلطات في الشرق الليبي انتصاراً دبلوماسياً،ولقد أشار موقفهم إلى استعدادهم للتعامل مع الخصوم السابقين، ما عزز التصور بأن الأطراف في شرق ليبيا أكثر انسجاماً مع الحاجة إلى دولة ليبية موحدة.
على الرغم من الخلافات فإن توقيع الميثاق يمثل خطوة صغيرة ولكنها مهمة نحو تحقيق الوحدة الوطنية، فالمصالحة هي عملية معقدة ولكن نجاحها يتوقف على آليات التنفيذ القوية، وخاصة في بلد حيث كانت الاتفاقات السابقة تنهار في كثير من الأحيان بسبب انعدام الثقة والتدخل الخارجي.
التحديات لا تزال قائمة
الخطوة الصغيرة التي جرت في أديس أبابا مازالت تحتاج الوضوح القانوني والمؤسسي، وهذا الأمر يفترض تنسيق الأطر التشريعية المتنافسة للمصالحة، وقانون مجلس النواب ومشروع المجلس الرئاسي، لتجنب الشلل القانوني، وتتطلب الشمول لأن الاستبعاد المستمر للجهات الفاعلة الرئيسية، والاعتماد على التدخلات الخارجية يهدد بتقويض شرعية العملية.
كشفت أحداث أديس أبابا عن استمرار الانقسامات العميقة في المشهد السياسي الليبي، حيث أضاع متعمداً المجلس الرئاسي مع حكومة الدبيبة في طرابلس فرصة مهمة لاتمام المصالحة، بفعل تغليبهم المصالح الفردية والتشبث بالسلطة، في المقابل، نجحت أطراف أخرى، مثل مجلس النواب، والمجلس الأعلى للدولة (المؤيد للمشري)، وسلطات الشرق التي مثلها بلقاسم حفتر، وفريق سيف الإسلام القذافي ومؤيدوه، في كسب ثقة أكبر، بعدما أظهروا التزاماً بمصلحة الليبيين، وتمسكاً بنهج التوافق والمصالحة.
بقلم: نضال الخضري