منذ زيارة المبعوث الفرنسي بول سولير إلى ليبيا، ورفض رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة، استقباله ظهرت صورة مختلفة للآليات السياسية في الأزمة الليبية، التي دخلت مرحلة جديدة ضمن مسارات عديدة، بعضها يحاول الوصول إلى حل.
رهانات الدبيبة لم تعد تعتمد على دعم الاتحاد الأوروبي، والتوتر بينه وبين الحكومة الفرنسية هو في النهاية شكل من التناقض الذي بات يحكم الأزمة الليبية، وذلك في وقت بدأ فيه الاتحاد الأوروبي بالنظر إلى مصالحه المهددة ليس فقط في ليبيا بل في القارة الإفريقية عموما، فهناك مسارات أوروبية غير قادرة على الخروج من إطار المصالح الأمريكية في ليبيا، إلا أنها تحاول كسر المعادلة القائمة في مسألة المصالح الموزعة على خارطة الانقسام السياسي، فمقاربة الجهود الدولية لاحتواء الأزمة الليبية باتت صعبة، والخروج من الانقسام وإطلاق العملية السياسية لم يكن مرتبطا بدعم الاستقرار في ليبيا، إنما في إغلاق العديد من الجبهات المشتعلة في إفريقيا، وخلق توازن بين القوى الدولية يبدأ من الساحل الإفريقي ويصل إلى حزام الصراعات من السودان وصولا للسنغال، وهو يشكل أيضا “حزام الانقلابات” ضد الغرب عموما، فإيجاد نموذج لحل الصراع الليبي يظهر ضمن تحد أوسع، والنجاح في خلق مشروع “الوحدة الليبية” يوجد بيئة سياسية إفريقية يمكن فيها لأوروبا والولايات المتحدة كسب صراع على مستوى أوسع داخل القارة.
الفرص الضائعة
ما قدمته الجهود الدولية تلخصه أزمة العلاقة بين حكومة الدبيبة ومجلس النواب التي بدأت منذ سبتمبر 2021، فالتحدي الأساسي هو داخل التوليفة السياسية التي أنتجتها الحرب والمبادرات الدولية بشكل متزامن، فالصراع أوجد قوى قادرة على تعبئة شرائح اجتماعية ولكنها في نفس الوقت غير قادرة على المنافسة السياسية دون غطاء “الشرعية الدولية”، وهو ما أوصل البلاد إلى مرحلة قوى “الأمر الواقع”، وعندما قرر مجلس النواب سحب الثقة من الدبيبة، فإن السياق السياسي بقي عند فرز الانقسامات دون الوصول إلى آلية قادرة على إيجاد حكومة ليبية جديدة، وهذه الصورة تنسحب على الحكومة الليبية التي خطت سياساتها أيضا بمعزل عن مجلس النواب.
عملياً فإن الفرص الضائعة من إجراء الانتخابات اتضحت منذ استقالة ستيفاني ويليمز مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة في يوليو 2022 بعد فشل جهودها في تحقيق توافق ليبي على قاعدة دستورية لتنظيم الانتخابات، رغم أنها أوجدت صيغة مختلفة عبر تشكيل لجنة الـ75 كبديل عن حكومة الوفاق، وذلك من خلال انتخابات داخل مؤتمر الحوار السياسي بجنيف في فبراير 2021، وفي توحيد الحكومة ومجلس النواب، إلا أنها أخفقت في إعداد قاعدة دستورية تؤدي إلى تنظيم الانتخابات التي كانت مقررة في الرابع والعشرين من ديسمبر 2021، وهذا الإخفاق قاد في النهاية إلى طرح المبعوث الأممي إلى ليبيا عبد الله باتيلي مبادرة الحوار الخماسي السياسي في 23 نوفمبر الثاني الماضي.
المفارقة التي حملتها مبادرة “الحوار الخماسي” أنها اعتبرت الوحدة الليبية مرتبطة فقط بالخلافات على مسائل الانتخابات، وهي كغيرها من المحاولات الأممية تقوم على صيغة للوحدة الليبية مبنية فقط على تداعيات الحرب، في وقت تبدو “الشرعية” أكثر تعقيدا لأنها تستند لشبكة مصالح على الصعيدين الداخلي والخارجي، وتمسك الدبيبة برئاسة الحكومة هو في النهاية ليس لعرقلة الحل السياسي فقط، إنما للإبقاء على توازن قلق بين شرق ليبيا وغربها يستطيع من خلاله التعامل مع المصالح الدولية المتصارعة على الأرض الليبية، وضمن هذا السياق السياسي فإن مسألة الوحدة الليبية باتت مرهونة بالظرف الدولي وحتى بالتنافس السياسي على القارة الإفريقية عموما.
ضمن هذا الظرف فإن مبادرة الوحدة الليبية التي ظهرت عبر اجتماعات استضافتها الجامعة العربية بـ10 مارس 2024 كانت معاكسة للنموذج المطروح بشكل دائم منذ بداية الأزمة، فهي أعطت الأمن الإقليمي أولوية على صراع المصالح الدولية عبر الرعاية من “المنظومة العربية” بالدرجة الأولى فاتفاق رؤساء مجالس النواب والدولة والرئاسة الليبية على تشكيل حكومة موحدة ولجنة فنية للنظر في إدخال تعديلات على القوانين الانتخابية لا تبدو مختلفة عن باقي المبادرات الأخرى، لكنها انطلقت بشكل مختلف من خلال توحيد المناصب السيادية بما يضمن تفعيل دورها المناطة بها على مستوى الدولة الليبية.
مؤتمر سرت
يمكن لمؤتمر الوحدة المقرر عقده في 28 أبريل برئاسة عبد الله اللافي في مدينة سرت تشكيل بداية مختلفة للأزمة الليبية، لكن نجاحه يبقى مرهونا بالقدرة على الحد من التنافس الدولي على الأرض الليبية، فالمؤتمرات التي تظهر برعاية دولية هي ظلال للاشتباك الدولي، وعزل المصالح الغربية وإن كان مستحيلا لكن الأطراف الليبية يمكن أن تجد مساحة مواجهة لرسم أولوياتها من جديد، فالترحيب العربي والإفريقي يحمل في نفس الوقت تحديات بتحديد الشرعية المطلوبة ففرصة التقدم نحو حل يعتمد على إيجاد رؤى بعيدة عن التعنت السياسي التي رافقت المبادرات السابقة.
التوقعات الدولية لا تعول كثيرا على مؤتمر سرت في تحقيق اختراق جدي، فالمسار الدولي أكمل الصورة عبر إعلان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن تعيين الدبلوماسية الأميركية ستيفاني خوري نائبة للممثل الخاص للشؤون السياسية في بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، ليفسح المجال من جديد أمام الولايات المتحدة كي تمسك بيدها أوراق اللعبة، فهي جاءت خلفا للدبلوماسي السابق ريزيدون زينينغا من زيمبابوي، الذي شغل منصب نائب الشؤون السياسية بالبعثة منذ 16 ديسمبر 2022، وكان من المنتظر أن يواصل العمل في موقعه، لكن ضغوطا أميركية قوية دفعت إلى الإطاحة به، خصوصا وأن منصب نائب رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا أصبح منذ استحداثه بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2542 لسنة 2020 موقعا إستراتيجيا بالنسبة إلى واشنطن، وذلك بهدف مراقبة الملف الليبي عن قرب.
ملياً فإن تعيين ستيفاني خوري ليس عودة أمريكية للتعامل بقوة مع الملف الليبي، فهي كانت موجودة طول العقد الماضي عبر الضغوط السياسية المختلفة، لكن تشعب الأدوار الحالية ما بين الاتحاد الإفريقي والجامعة العربية إضافة لمبادرات مختلفة خلق ظرفا مختلفا يدفع الولايات المتحدة إلى التعامل بشكل أكثر قربا مع الملف الليبي، خصوصا مع استنفاذ الأوراق التي تحملها حكومة الدبيبة، ومشاكلها المتراكمة ليس فقط في الداخل وإنما في المساحة الأكبر لحلفاء الولايات المتحدة ضمن الاتحاد الأوروبي.
إن تصورات الوحدة الليبية التي عادت باتجاه الماضي والحديث عن عودة الملكية، أو حتى نحو المبادرات الدولية التي تستند فقط إلى قوى الأمر الواقع؛ تحاصر الحيوية السياسية للمجتمع الليبي وفي نفس تسعى لإبعاد المعنيين بالأزمة سواء الاتحاد الإفريقي أو حتى الجامعة العربية من لعب أدوار أقوى من أجل إيجاد مقاربة جديدة للشرعية الليبية التي تضمن في النهاية وحدة واستقرار ليبيا.
بشكل عام، ثمة آمال كبيرة على أن ينجح مؤتمر الوحدة في مدينة سرت بتشكيل بداية مختلفة للأزمة الليبية، في حال تم عقد هذا الاجتماع، الأمر الذي من شأنه أن يخلق آفاقاً جديدة قد تعيد لملمة ليبيا التي تشظت بعد تدخل قوات حلف شمال الاطلسي (الناتو) قبل أكثر من عقد.
بقلم مازن بلال
الحوثيون: التحالف الأمريكي لن يوقف عملياتنا بالبحر الأحمر