صحيفة “غارديان” البريطانية، كشفت في تحقيق موسّع، عن تورط مئات المرتزقة الكولومبيين في الحرب الدائرة في السودان، حيث يقاتلون إلى جانب قوات الدعم السريع، ويشاركون في تدريب أطفال سودانيين على القتال.
وذكرت الصحيفة أن دور هؤلاء المرتزقة لا يقتصر على المشاركة في المعارك، بل يشمل تدريب مجندين صغار السن على استخدام الأسلحة النارية وقذائف الـ”آر بي جي”.
وأشارت إلى أن صوراً التُقطت داخل مخيم زمزم، أكبر مخيم للنازحين في السودان، أظهرت أطفالاً يحملون البنادق ويبتسمون أمام الكاميرا بعد تلقيهم تدريبات عسكرية.
وروى أحد المرتزقة، ويُدعى “كارلوس” وهو اسم مستعار، للصحيفة أنه غادر كولومبيا مطلع عام 2025 بعد توقيع عقد شهري بقيمة 2600 دولار مع وسطاء أمنيين يُعتقد أنهم مرتبطون بإحدى دول المنطقة.
وبعد سلسلة رحلات عبر أوروبا وإثيوبيا والصومال، وصل إلى مدينة نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور، التي أصبحت مركزاً رئيسياً لتجمع المرتزقة الكولومبيين العاملين ضمن صفوف قوات الدعم السريع.
وقال كارلوس في شهادته: “الحرب تجارة. علّمنا أطفالاً سودانيين لم يحملوا السلاح من قبل كيف يطلقون النار ويستخدمون القذائف. كنا ندربهم ليذهبوا ويموتوا”.
ووصف التجربة بأنها “فظيعة ومجنونة”، قبل أن يضيف بأسى: “للأسف، هذه هي الحرب”.
وبحسب التحقيق، نُقلت الفرقة التي كان ينتمي إليها كارلوس لاحقاً إلى مدينة الفاشر المحاصرة، التي تعد آخر معاقل الجيش في إقليم دارفور وأحد أكثر ميادين القتال دموية.
ولم تدخل أي مساعدات إنسانية إلى الفاشر منذ نحو 18 شهراً، فيما تؤكد الأمم المتحدة أن مئات الآلاف من المدنيين يعيشون في ظروف مجاعة حقيقية، إذ يأكل الأطفال الجراد وعلف الحيوانات للبقاء على قيد الحياة.
ويأتي ذلك ضمن حرب خلّفت أكثر من 150 ألف قتيل، وأجبرت نحو 13 مليون شخص على النزوح، وسط تحذيرات من أنها تمثل أسوأ أزمة إنسانية في العالم حالياً.
وأوضح المرتزق الكولومبي أنه سلّم لصحيفتي “غارديان ولا سيلا فاسيا” الكولومبية صوراً ومقاطع فيديو تُظهر زملاءه أثناء تدريب المجندين أو خلال المعارك في دارفور.
وتظهر بعض المقاطع إطلاق نار كثيف داخل أحياء مدمرة في الفاشر، بينما يتحدث المرتزقة بالإسبانية عن إصابات بين صفوفهم.
ومن جانبه، وصف الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو ظاهرة المرتزقة بأنها “تجارة تحوّل الرجال إلى سلع للقتل”، متعهداً بحظرها، لكنه أقرّ بأن الظروف الاقتصادية الصعبة للجنود المتقاعدين، الذين يُجبرون على ترك الخدمة في سن الأربعين بمعاشات زهيدة وفرص محدودة للتأهيل، تجعلهم عرضة للإغراء المالي.
وقالت إليزابيث ديكنسون، كبيرة المحللين لشؤون كولومبيا في “مجموعة الأزمات الدولية”، إن شركات الأمن الخاصة لم تعد تكتفي بتجنيد المتقاعدين، بل باتت تستقطب جنوداً على رأس الخدمة من مناطق فقيرة، مقابل مبالغ تصل إلى آلاف الدولارات عبر تطبيقات التواصل مثل “واتساب”.
وترى “غارديان” أن انتشار المرتزقة الكولومبيين يرتبط بإرث الصراع الطويل في بلادهم، الذي خلّف فائضًا من المقاتلين ذوي الخبرة العسكرية العالية، تلقّى كثير منهم تدريباً على أيدي القوات الأمريكية، مما جعل كولومبيا واحدة من أكبر مصدّري المرتزقة في العالم.
وكشف كارلوس أنه غادر السودان مؤخراً بسبب مشكلات تتعلق بعدم دفع الرواتب، مشيراً إلى أن نحو 30 من زملائه انسحبوا معه، “لكن في الوقت نفسه، كانت طائرات جديدة تصل بمرتزقة آخرين ليحلوا محلنا”، حسب تعبيره.
ويعترف كارلوس بأن عمله كمرتزق “ليس قانونياً ولا شريفاً”، مضيفاً: “لكننا نذهب من أجل المال، لا أكثر”.
ويؤكد الخبير الأمريكي في شؤون المرتزقة شون مافيتي أن الظاهرة تشهد عودة سريعة في القرن الحالي، قائلاً: “إنها أقدم مهنة في العالم. نحن نعود إلى زمن شبيه بالعصور الوسطى، حيث يمكن للأثرياء امتلاك جيوش خاصة والتصرف كقوى عظمى”.
ويضيف أن استخدام المرتزقة يمنح الدول “إنكاراً معقولاً” لتجنب المسؤولية القانونية عن الانتهاكات، إذ يمكنها التنصل منهم بسهولة إذا قُبض عليهم أو قُتلوا.
وفي قلب هذا المشهد القاتم، يبدو السودان اليوم ساحة تتقاطع فيها التجارة بالدم، حيث تتحول الحروب إلى مشاريع ربحية، والأطفال إلى وقود لها.
السودان يكتشف حقول ألغام جديدة ويناشد دعماً دولياً لإزالتها
