متحف القصر الجمهوري في الخرطوم يُعد من أبرز المعالم التاريخية في السودان، إذ يضم مقتنيات نادرة توثق الحقب السياسية المختلفة التي مرت بها البلاد منذ عام 1884 وحتى 2007.
وافتُتح رسمياً في 31 ديسمبر 1999 ليكون أول متحف متخصص في عرض مقتنيات حكام السودان، إلى جانب تحف وأدوات تراثية تعكس مراحل تطور السلطة والحكم في البلاد.
ويرتبط المتحف بالقصر الجمهوري ارتباطاً وثيقاً، حيث تعود معظم معروضاته إلى هذا القصر العريق، كما أنه يقع داخل أسواره ويتبع له إدارياً، لكن المبنى نفسه يحمل تاريخاً مختلفاً، فقد كان في الأصل كاتدرائية شُيدت على الطراز البيزنطي عام 1912، حيث أدى الحكام البريطانيون شعائرهم الدينية.
وبعد الاستقلال، أُغلقت الكاتدرائية، ثم أُعيد استخدامها عام 1999 كمتحف يعرض مقتنيات القصر ذات القيمة التاريخية، وذلك بعد إزالة برج الأجراس الذي كان يعلوها.
ومن بين المقتنيات الفريدة التي احتواها المتحف، جناح مخصص لأسطول السيارات الرئاسية التي استخدمها الحكام السودانيون منذ الحكم الثنائي البريطاني-المصري (1889-1956) وما بعد الاستقلال.
ومن بين أبرز السيارات المعروضة، سيارة “رولز رويس” أهداها خديوي مصر عام 1924 إلى السير روبرت هاو، الحاكم العام البريطاني للسودان آنذاك، وأخرى من الطراز ذاته قُدمت للرئيس جعفر نميري عام 1984 بخصائص مصفحة ضد الرصاص.
كما يضم سيارات “همبر” التي استخدمها الحكام البريطانيون بين 1940 و1955، إلى جانب “رولز رويس” موديل 1954، التي استُخدمت لنقل زعماء دول، من بينهم الرئيس المصري جمال عبد الناصر خلال زيارته للسودان في نوفمبر 1959.
ويحتوي المتحف على مجموعة نادرة من اللوحات الزيتية والصور الفوتوغرافية التي توثق شخصيات سياسية بارزة حكمت السودان، من بينهم الملك فؤاد والملك فاروق، إضافة إلى رؤساء سودانيين مثل إسماعيل الأزهري، إبراهيم عبود، جعفر نميري، وعبد الرحمن سوار الذهب، ورؤساء حكومات بارزين من بينهم محمد أحمد المحجوب، سر الختم الخليفة، الجزولي دفع الله، والصادق المهدي.
وفي إحدى القاعات، كانت هناك صورة نادرة للسلطان علي دينار، التُقطت عقب مقتله عام 1916، تُظهره وهو يدير وجهه نحو السماء، في مشهد يوثق نهاية أحد أبرز شخصيات التاريخ السوداني، كما احتوى المتحف على صورة لمعركة كرري، حيث يظهر مقاتلو الأنصار بسيوفهم المشرعة في لحظة تاريخية.
وفي جانب آخر، يحتوي المتحف على معرض فريد لمختلف الأوسمة والأنواط التي مُنحت في السودان على مر العصور، ومن بينها “وسام النيلين”، الذي يُعد من أرفع الأوسمة السودانية وأكثرها رمزية.
ويضم المتحف أيضاً جناحاً خاصاً بعرض الأثاث الرئاسي الذي استخدمه رؤساء السودان، من بينها طاولة رئاسية استخدمها الزعيم إسماعيل الأزهري، مزينة بزخارف نحاسية، إلى جانب مقعده الخشبي.
كما يضم منضدة استخدمت خلال افتتاح أول مجلس استشاري للسودان عام 1946، وبيانو عزف عليه الجنرال تشارلز غوردون، حاكم عام السودان الذي لقي مصرعه خلال الثورة المهدية عام 1885، إلى جانب بيانو كهربائي ضخم جلبه الحاكم العام ونجت باشا عام 1916.
ولم يقتصر المتحف على المقتنيات المحلية، بل ضم أيضاً هدايا ثمينة من زعماء العالم إلى السودان عبر العصور، عند مدخله، كانت تستقبل الزوار طاولة مصنوعة من الصدف، أهداها شاه إيران إلى الرئيس الأسبق جعفر نميري، مُصممة على هيئة رقعة شطرنج.
ومن بين أبرز المقتنيات، كانت هناك أحجار صغيرة من سطح القمر، أهداها الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون إلى السودان، وإبريق فضي فريد، أهداه رئيس وزراء باكستان الأسبق ذو الفقار علي بوتو إلى الرئيس نميري خلال زيارته الأخيرة إلى السودان، قبل أن يُطاح به ويُعدم لاحقاً في بلاده.
ولكن هذه الكنوز الأثرية لم تسلم من أهوال الحرب، فمع اندلاع الصراع في السودان، سيطرت قوات الدعم السريع على القصر الجمهوري، ليتحول المتحف إلى أنقاض، ووثّقت صور نشرها المصور الرئاسي كمال عمر حجم الدمار الذي لحق بالمتحف، حيث اختفت مقتنيات ثمينة، وأُحرقت قطع أثرية وأثاث فاخر.
ووفق مصادر مطلعة، فقد تعرض القصر الجمهوري لعمليات نهب وتدمير ممنهجة، شملت مقتنياته وأثاثه الفاخر المستورد وفق أعلى المواصفات.
وأكدت المصادر أن قوات الجيش فوجئت، عقب استعادة السيطرة على القصر، باختفاء شبه كامل لمحتوياته، وسط ترجيحات بأن بعض القطع سُرقت، فيما أقدمت عناصر الدعم السريع على إحراق جزء من الأثاث لاستخدامه كحطب للطهي، في ظل النقص الحاد في موارد الطاقة خلال المعارك.
ومع استمرار الحرب، يواجه السودان نزيفاً ثقافياً خطيراً، إذ لم يكن متحف القصر الجمهوري الضحية الوحيدة، بل طالت عمليات النهب والتخريب العديد من المتاحف التاريخية والمواقع الأثرية.