وسط الجمود السياسي في ليبيا وعجز الأطراف عن الاتفاق على مسار مستدام للحكم، اقترح عضو المجلس الرئاسي، عبد الله اللافي، مبادرة بعنوان “الحل السياسي: الحوافز والضمانات”، حيث تبدو محاولة لاستمرار السلطة في أيدي النخب الحاكمة.
المبادرة في أهدافها الظاهرة تهدف لبناء توافق وطنيحل الخلافات حول الانتخابات الرئاسية من خلال اقتراح انتخاب مجلس رئاسي موسع بدلاً من رئيس واحد، كما تتضمن إعادة هيكلة الحكم المحلي من خلال تقسيم البلاد إلى 13 محافظة ذات صلاحيات إدارية لا مركزية، لكن الجانب الآخر لها يكمن في تمديد النقاش السياسي وتأجيل الانتخابات الوطنية بشكل يكرس الجمود السياسي.
إعادة إنتاج صيغة فاشلة
اقتراح اللافي بانتخاب مجلس رئاسي موسع مباشرة من قبل الشعب كبديل شامل لحل أزمة الانتخابات الرئاسية، يعيد تجربة تاريخية تثبت عدم فعاليتها، فخلال فترة تولي فائز السراج رئاسة حكومة الوفاق الوطني (GNA)، تم تجربة نموذج مشابه لكنه فشل في تحقيق الاستقرار، وعانى المجلس الموسع من الانقسامات الداخلية وغياب القيادة الواضحة وعدم القدرة على تنفيذ السياسات بفعالية، وإعادة تقديم هذا النموذج تحت غطاء التمثيل الأوسع يؤدي إلى تكرار نفس الأخطاء بدلا من معالجة أزمة الحكم في ليبيا.
عمليا يرتكز الطرح الأساسي لمبادرة اللافي على أن وجود هيئة تنفيذية جماعية سيمنع أي طرف من احتكار السلطة، ولكن إذا أخذنا بعين الاعتبار انعدام الثقة بين الفاعلين السياسيين في ليبيا، فمن المرجح أن يؤدي هذا الهيكل إلى مزيد من الجمود بدلاً من تحقيق التوافق، فغياب القيادة القوية كان أحد الأسباب الرئيسية لفشل المجلس الرئاسي في عهد السراج، وليس هناك ما يبرر الاعتقاد بأن النسخة الجديدة ستنجح.
أما المقترح الثاني في المبادرة الذي يتحدث عن تقسيم ليبيا إلى 13 محافظة، فإنه يُقدَّم كخطوة نحو اللامركزية، ومن حيث المبدأ، يمكن أن يؤدي نقل السلطة الإدارية من الحكومة المركزية إلى الإدارات المحلية إلى تعزيز الحوكمة والتنمية الاقتصادية، ولكن في الواقع فإن هذا الإجراء يبدو محاولة لإضعاف السلطات البلدية القائمة بدلاً من تمكينها.
يمكن النظر إلى مسألة اللامركزية في المقترح من خلال استعداد ليبيا حاليا للجولة الثانية من الانتخابات البلدية، ومع ذلك لم تخصص حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية برئاسة عبد الحميد الدبيبة أي ميزانية لها، ويشير هذا إلى تهميش متعمد للحكم البلدي بدلا من السعي إلى اللامركزية الحقيقية، ومن خلال اقتراح تقسيم جديد، فإن مبادرة اللافي تعطل هيكلا إداريا قائما دون تقديم آلية واضحة للانتقال إليه، ما يؤدي إلى تقويض البلديات لصالح بنية جديدة يمكن أن يتم التلاعب بها لخدمة المصالح السياسية.
كما أن تقسيم ليبيا إلى 13 محافظة يتجاهل التعقيدات القبلية والإقليمية في البلاد، وعلى الرغم من أن اللامركزية تُطرح كثيرا كحل لأزمة الحكم في ليبيا، إلا أن تنفيذها يتطلب إطارا منظما يحظى بقبول واسع، ومن شأن هذا التقسيم المقترح أن يزيد من حدة التوترات بين المناطق، خاصة إذا لم يتم تحديد كيفية توزيع الموارد والصلاحيات بوضوح.
استراتيجية متعمدة لتأجيل الانتخابات
الدافع الأكثر وضوحا وراء مبادرة اللافي هو إطالة أمد النقاش السياسي وتأجيل الانتخابات الوطنية، ومنذ فشل الانتخابات الرئاسية في ديسمبر 2021، استُخدمت المناورات السياسية المتتالية لتعطيل أي تقدم نحو الشرعية الديمقراطية،وتأتي مبادرة اللافي في هذا السياق، حيث تحوّل التركيز من الانتخابات المباشرة إلى نقاشات موسعة حول هيكل الحكم.
يتماشى هذا النهج مع الاستراتيجيات التي استخدمتها النخب السياسية الليبية، خاصة حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية للحفاظ على سلطتها،ومن خلال طرح نماذج حكم جديدة، فإن اللافي يضيف طبقات من التعقيد إلى المشهد السياسي بدلا من تقديم خارطة طريق واضحة للانتخابات، وعوضا عن تسهيل العملية الانتخابية، تؤدي مبادرته إلى إنشاء عقبات بيروقراطية جديدة تضمن استمرار تأجيل الانتخابات، إضافة لذلك أظهرت القوى الدولية تزايد نفاد صبرها تجاه النخب السياسية الليبية، داعية إلى وضع جدول زمني واضح للانتخابات، ومع ذلك تعمل مبادرات مثل مبادرة اللافي على إبقاء ليبيا في حالة من الغموض السياسي، ويسمح لأولئك الموجودين في السلطة بالبقاء في مواقعهم دون شرعية انتخابية.
تحديات التنفيذ
تواجه المبادرة أيضا مشاكل في التنفيذ، فحتى مع افتراض حسن النية فإن إمكانية تنفيذ مبادرة اللافي تظل موضع شك كبير، وتواجه عقبات تظهر في النقاط التالية:
- معارضة المؤسسات السياسية فمن غير المرجح أن يرحب مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة بفكرة إعادة هيكلة السلطة التنفيذية بهذه الطريقة، إذ سبق أن عارضوا طروحات الإصلاحات السياسية التي لا تحمل وضوحا في الغايات والأهداف.
- التحديات الأمنية واللوجستية فإجراء انتخابات وطنية لاختيار مجلس رئاسي في ظل الأوضاع الأمنية الحالية أمر غير واقعي، حيث لا تزال ليبيا تعاني من الانقسامات العسكرية وغياب القوة الأمنية الموحدة القادرة على ضمان نزاهة الانتخابات.
- التشكيك الدولي، فالدور الذي تلعبه الأمم المتحدة والدول الفاعلة كبيرا في أي تسوية سياسية في ليبيا، ولكن هذه المبادرة تفتقر إلى الدعم الدولي الضروري، ولا تزال القوى الدولية تركز على تنفيذ خارطة الطريق الانتخابية المتفق عليها مسبقًا بدلاً من التجارب السياسية الجديدة.
- عدم ثقة الشعب؛ حيث فقد الليبيون ثقتهم في النخبة السياسية، وينظرون إلى المبادرات المتكررة على أنها أدوات لإطالة عمر السلطة بدلا من تقديم حلول حقيقية، ومن دون دعم شعبي واسع، من غير المرجح أن تحقق المبادرة نجاحا خارج نطاق الطبقة السياسية الحاكمة.
بينما تُروَّج مبادرة عبد الله اللافي على أنها وسيلة لكسر الجمود السياسي، فإنها في جوهرها تُمثل مناورة أخرى لتعقيد الحل السياسي وتأجيل الانتخابات الوطنية، وإعادة تقديم مجلس رئاسي موسع، وهو نموذج سبق أن فشل، واقتراح تقسيم مثير للجدل إلى 13 محافظة، لا يخدمان إلا في ترسيخ الوضع القائم بدلاً من حل أزمة ليبيا.
المستفيدون الرئيسيون من هذه الخطة هم الذين يسيطرون على السلطة حاليا ويسعون إلى تجنب الانتخابات التي تهدد مواقعهم، ومن دون آليات تنفيذ واضحة، أو دعم سياسي واسع، أو تأييد شعبي حقيقي، من غير المحتمل أن تنجح هذه المبادرة، وبدلاً من توفير مسار واقعي للتقدم، فإنها تضيف مزيدا من التعقيد إلى المشهد السياسي المتعثر في ليبيا، ويجعلها عقبة جديدة أمام تحقيق الاستقرار والحكم الديمقراطي.
بقلم: مازن بلال