مالي تشهد أزمة متشابكة تتجاوز حدود نقص الوقود لتكشف هشاشة بنيتها الاقتصادية والسياسية، منذ انقلاب أغسطس 2020 الذي قاده العقيد آسيمي غويتا.
ويقود المجلس العسكري البلاد في عزلة إقليمية ودبلوماسية خانقة عطّلت تدفق الإمدادات الحيوية وزادت أعباء الاقتصاد المنهك، فيما تتفاقم الأزمة مع تصاعد الهجمات الإرهابية وضعف التخطيط الحكومي والاعتماد شبه الكامل على واردات الطاقة.
ووصف البروفيسور “أق أحمد حمدو” الوضع قائلاً: “ما يحدث في مالي اليوم ليس مجرد أزمة وقود، بل أزمة نظام بأكمله، إنها نتيجة تراكمات طويلة من سوء الإدارة، والعزلة التي فرضتها السلطة العسكرية على نفسها، وفشلها في قراءة التحديات الإقليمية”.
وأضاف أن الأزمة نتجت عن سلسلة من العوامل البنيوية والسياسية، أبرزها عجز المجلس العسكري عن احتواء التهديد الإرهابي الذي أدى إلى قطع محاور الطرق الحيوية التي تغذي المدن الجنوبية عبر دول ساحلية مثل السنغال وغينيا كوناكري وساحل العاج وموريتانيا.
ومنذ عام 2020، يشهد الاقتصاد المالي تراجعاً حاداً بفعل تقلص الموارد وغياب رؤية حكومية واضحة، فيما أدت الهجمات الإرهابية المتكررة إلى شلل طرق التجارة والإمداد نحو الدول المجاورة.
ويشير البروفيسور حمدو إلى أن الوضع كشف هشاشة البنية الاقتصادية واعتماد البلاد شبه الكامل على الواردات، في غياب سياسة لتنويع مصادر التزويد أو بناء احتياطي وطني قادر على امتصاص الصدمات.
وتعمقت عزلة مالي الدبلوماسية والاقتصادية بعد انقلاب أغسطس 2020، مع تعليق عضويتها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الإيكواس)، ما أدى إلى تراجع المبادلات التجارية وإغلاق محاور النقل الحيوية نحو ساحل العاج والنيجر.
وأضاف حمدو: “انعزلت مالي تدريجياً عن الجماعات الإقليمية وعن شركاء غربيين، وتسببت التوترات الدبلوماسية مع النيجر وساحل العاج في قطع طرق حيوية للإمداد، كما أن تحالفات النظام مع روسيا على حساب التعاون الإقليمي زادت من العزلة وأضعفت شبكاتها اللوجستية”.
وعلى الرغم من تخفيف العقوبات الإقليمية عام 2023، إلا أن آثارها لا تزال عميقة، حيث تراجعت تدفقات الاستيراد بنسبة تقارب 35% خلال العامين الأخيرين، خصوصاً في قطاع المحروقات.
وأوضح حمدو أن العقوبات المفروضة عام 2022 تركت آثاراً عميقة، فلا تزال قنوات الدفع والمعاملات المالية متعثرة، مما يزيد تكلفة النقل والتأمين ويفاقم نقص الوقود وارتفاع الأسعار، التي تجاوزت 80% مقارنة بعام 2021.
وارتفاع الأسعار انعكس مباشرة على حياة المواطنين، الذين وجدوا أنفسهم بين غلاء الوقود وتدهور القدرة الشرائية، فيما تبنّت السلطة خطاباً تعبويا تصوّر الأزمة كمؤامرة خارجية تستهدف سيادة البلاد، دون أن ينجح في تهدئة الغضب الشعبي.
وتشير تقارير محلية إلى تراجع الأنشطة الحرفية بنسبة تصل إلى 50%، وشلل شبه تام للنقل العام والخاص بسبب انعدام الوقود.
وتتجلى آثار الأزمة يومياً في العاصمة باماكو من خلال طوابير السيارات الطويلة أمام المحطات، وانقطاع الكهرباء، ونقص الغاز المنزلي، فيما تعاني المناطق الريفية عزلة شبه تامة بسبب غياب الوقود اللازم للنقل وتشغيل المولدات.
ويفسّر البروفيسور حمدو ذلك بالقول: “الآثار درامية، مع شلل في الأنشطة التجارية، ارتفاع أسعار النقل والسلع الغذائية، وتكرار انقطاعات الكهرباء، ما يهدد حفظ المنتجات الزراعية والخدمات الصحية”.
على المستوى الإقليمي، تتعامل دول الجوار بحذر مع الأزمة، خصوصاً بعد تشكيل تحالف دول الساحل (AES)، فيما يبقى التعاون محدوداً بسبب تحالفات مالي العسكرية المثيرة للجدل.
وأوضح حمدو أن الانغلاق الدبلوماسي أفقد مالي موقعها الطبيعي في المنظومة الاقتصادية لغرب إفريقيا، وجعلها تعتمد على حلول ظرفية غير مستدامة.
وسط هذه الضغوط، تتزايد التساؤلات حول استعداد المجلس العسكري لتعديل مواقفه واستعادة الثقة مع الجيران، إلا أن المؤشرات الحالية لا توحي بوجود تغيير قريب.
وأكد البروفيسور حمدو: “الخطاب الوطني وحده لا يمكن أن يخفي فشل السلطة في إدارة الاقتصاد، وإذا لم تجد الحكومة مخرجاً سريعاً، فقد تفقد المزيد من شرعيتها لدى المواطنين والمجتمع الدولي”.
وتختزل أزمة الوقود في مالي مأساة دولة تتخبط بين ضعف الحوكمة والعزلة الإقليمية والاضطرابات الأمنية، فيما يعيش المواطنون يوميات قاسية بين نقص الطاقة وغلاء الأسعار، لتتحول الأزمة إلى مرآة تكشف حدود التجربة العسكرية في الحكم ومستقبل بلد يقف على حافة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي.
رئيس وزراء مالي الأسبق يواجه تهم فساد في ظل حملة اعتقالات سياسية موسعة
