14 ديسمبر 2025

يصعب في مالي الفصل بين ما هو سياسي وما هو أمني، فهي تعيش حالة تداخل عميق بين منطق الحكم ومنطق الحرب، فالقرارات السيادية تُصاغ في ظل تهديد دائم، والسياسة محكومة بسؤال واحد؛ كيف للدولة البقاء في بيئة تتآكل فيها قدرتها على السيطرة؟

منذ استيلاء العسكريين على السلطة في 2020 ثم تثبيت نفوذهم في 2021، ووُضعت مالي على مسار انتقالي استثنائي، لا يمكن فهمه فقط باعتباره خروجا عن المعايير الديمقراطية، ولا اعتباره استعادة للسلطة السيادية، بل استجابة لنظام أزمات متراكمة فشلت الحكومات المدنية السابقة في احتوائه، فلا يمكن فهم سلوك السلطة الانتقالية، وحدود خياراتها، وكذلك إخفاقاتها دون قراءة الآليات السياسية التي تحكم مالي ودول الساحل عموما.

منطق الانتقال في سياق دولة مهددة

تبنّت الحكومة الانتقالية بقيادة عاصمي غويتا تصورا للانتقال مختلفا عن الصيغ الليبرالية التقليدية، فهي ترى أن الدولة لا تستطيع تنظيم انتخابات ذات معنى، ولا إعادة فتح المجال السياسي بالكامل، في ظل فقدان السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي، وتفكك الإدارة المحلية، واستهداف مستمر للقوات المسلحة، ومن هذا المنظور يصبح تمديد المرحلة الانتقالية كضرورة عملية تفرضها ظروف الحرب.

هذا المنطق يجد صداه لدى شريحة من الرأي العام، خصوصا في المدن الكبرى، التي ترى أن التجربة الديمقراطية السابقة لم تنتج لا استقرارا ولا خدمات، وأن الأولوية يجب أن تُمنح لإعادة بناء الدولة، حتى لو جاء ذلك على حساب الجدول الانتخابي، وضمن هذا الإطار يُفهم حل الأحزاب السياسية وتقييد النشاط العام بوصفه محاولة للحد من التشرذم السياسي، وليس بالضرورة سعيا لإلغاء السياسة كليا.

لكن هذا النهج يحمل في داخله مفارقة أساسية، فكلما طال أمد الانتقال، وأُرجئت السياسة إلى أجل غير مسمى، ازدادت صعوبة إعادة إدماجها لاحقا دون تكلفة اجتماعية وسياسية مرتفعة.

الأمن كإطار شامل للحكم

اختارت السلطة الانتقالية أن تجعل الأمن الإطار الناظم لكل السياسات الأخرى، وهذا الخيار ليس اعتباطياً، بل يعكس واقعا ميدانيا صعبا، يتمثل في تصاعد نشاط الجماعات المسلحة، وعلى رأسها جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، التي أثبتت قدرة عالية على التكيّف مع الضغوط العسكرية، وعلى إعادة تشكيل استراتيجيتها بما يتجاوز المواجهة المباشرة مع الجيش.

خلال الفترة الأخيرة، بدا واضحا أن الجماعة انتقلت من منطق السيطرة المحلية إلى منطق الإرباك الاستراتيجي، فبدلا من محاولة السيطرة على مدن كبرى، ركزت على استهداف الطرق، وقوافل الوقود، وسلاسل الإمداد، ما جعل العاصمة باماكو، للمرة الأولى منذ سنوات، تشعر بثقل الحرب بشكل مباشر، وهذا التحول لا يعني أن الدولة فقدت السيطرة على العاصمة، لكنه يشير إلى أن السيطرة لم تعد مطلقة ولا مريحة.

في المقابل، واصلت القوات المسلحة المالية عملياتها، معتمدة على تكتيكات أكثر هجومية، ودعما خارجيا غير مقيد بالشروط السياسية، وحققت هذه العمليات بعض النجاحات الميدانية، خاصة في استعادة مواقع رمزية أو تفكيك خلايا محلية، لكنها لم تترجم بعد إلى تحسن ملموس في أمن المدنيين أو في مسار الحياة الاقتصادية.

المدنيون كمعيار غائب للنجاح

أحد التحديات الكبرى التي تواجه الحكومة الانتقالية هو كيفية قياس النجاح، فإذا كان المعيار هو عدد العمليات العسكرية أو المناطق التي تُعلن “مؤمَّنة”، فإن الصورة تبدو إيجابية، أما إذا كان المعيار هو مستوى الأمان الذي يشعر به المدني، أو قدرته على التنقل والعمل والوصول إلى الخدمات، فإن النتائج تبدو أكثر التباسا.

المدنيون في وسط وشمال مالي يعيشون بين عنف الجماعات المسلحة، التي تستخدم الترهيب والعقاب الجماعي، وبين عمليات عسكرية حكومية تُتهم أحياناً بعدم التمييز الكافي، وهذه البيئة تُضعف الثقة المتبادلة، وتجعل من الصعب على الدولة أن تبني شبكات تعاون محلية التي تعتبر عنصرا أساسيا في أي استراتيجية ناجحة لمكافحة التمرد.

ومع انتقال بعض آثار الحرب إلى العاصمة عبر أزمة الوقود وارتفاع الأسعار، أصبح الضغط الشعبي أكثر وضوحا، رغم أنه مازال منضبطا بشكل عام، وستكون قدرة الحكومة على إدارة هذا الضغط، دون الانزلاق إلى القمع أو الإنكار، اختبارا حقيقيا لمرونة النظام الانتقالي.

إعادة تشكيل المشهد الدولي

على الصعيد الدولي، اختارت مالي تقليص اعتمادها على الأطر متعددة الأطراف، وفي مقدمتها بعثة الأمم المتحدة، التي انسحبت نهائيا بعد سنوات من الوجود المكلف والنتائج المحدودة، وخلق هذا الانسحاب فراغا، لكنه في الوقت نفسه أزال مصدرا دائماً للتوتر بين الحكومة وشركائها الدوليين.

التقارب مع روسيا وفّر للسلطة الانتقالية دعما سريعا ومتجاوبا مع أولوياتها الأمنية. غير أن هذا الخيار لم يكن بلا كلفة، حيث ترافق مع عزلة نسبية عن مصادر التمويل الغربي، ومع انتقادات متزايدة بشأن حقوق الإنسان، والحكومة المالية لا تنكر هذه الكلفة، لكنها تبدو مستعدة لتحمّلها مقابل هامش أوسع من الاستقلال في اتخاذ القرار.

إقليميا، أدى انسحاب مالي من الإيكواس وتشكيل تحالف مع بوركينا فاسو والنيجر إلى إعادة رسم خريطة العلاقات في الساحل، حيث يعكس هذا التحالف إدراكا مشتركا لطبيعة التهديدات، لكنه يظل إطارا أمنيا يحتاج إلى رؤية اقتصادية أو سياسية متكاملة.

آفاق المستقبل: بين الاستمرار والتعديل

المستقبل القريب لمالي لا يحمل مؤشرات على تحول جذري، فالسيناريو الأرجح استمرار النهج الحالي، مع محاولات تحسين الأداء الأمني وإدارة الأزمات الاقتصادية بشكل تفاعلي، هذا الاحتمال لا يعني الجمود التام، بل تطورا بطيئا داخل نفس الإطار.

سيواجه هذا المسار حدودا واضحة، إذا لم يُفتح، في مرحلة ما، أفق سياسي أكثر شمولا؛ ليس بالضرورة عبر انتخابات فورية، بل من خلال إعادة بناء الثقة، وإشراك فاعلين محليين، وإعادة تعريف العلاقة بين الأمن والسياسة بحيث لا يلغي أحدهما الآخر.

لا تعمل السلطة الانتقالية في مالي من موقع قوة مكتملة ولا من فراغ سياسي مطلق، بل ضمن هامش محدود تفرضه الضغوط الأمنية والاقتصادية وتوازنات الداخل والخارج، قراراتها تُتخذ في سياق القيود، ما يجعل الحكم عليها عملية معقّدة لا تستقيم بمنطق الإدانة السريعة ولا بمنطق التبرير التلقائي، بل بقراءة دقيقة لشروط الواقع الذي تتحرك داخله.

تقف مالي اليوم ضمن واقع لا يمكن وصفة بالانهيار أو بالطريق الواضح نحو الاستقرار، فالدولة قائمة، لكنها مُنهَكة والسلطة موجودة وتخضع لاختبارات دائمة، والسياسة لم تختف لكنها مؤجلة.

السؤال ليس عن شرعية الحاكمين بقدر ما هو عن قدرة الدولة على إنتاج مسار قابل للحياة، يربط الأمن بالتمثيل، والسيادة بالمساءلة، والانتقال بوجهة نهائية، وإجابة هذا السؤال لن تأتي من ساحة المعركة وحدها، بل من الطريقة التي ستُعاد بها صياغة السياسة، عندما تسمح الظروف بذلك، كأداة للاستقرار لا كترف مؤجل.

بقلم مازن بلال

مالي تعتمد مشروع “ميثاق السلام الوطني”

اقرأ المزيد