أعلنت مصحة الخليل في طرابلس وفاة الناشط عبد المنعم المريمي متأثرا بإصابة في الرأس، بعد قفزه من طابق علوي داخل مقر النيابة أثناء انتظار الإفراج عنه، لكن في الغرب الليبي حيث الأمن بلا رقابة فإن وفاته تعكس تفكك الدولة واستغلال الاعتقال التعسفي لقمع المعارضين.
مَن هو عبد المنعم المريمي؟ ولماذا استُهدف؟
عبد المنعم المريمي لم يكن وجها عاديا في المشهد المعارض، فهو ابن شقيق أبوعجيلة مسعود المريمي، المتهم في قضية لوكربي والمسجون حاليا في الولايات المتحدة، ما جعل قضيته الشخصية تُغضب أنصار نظام القذافي الذين يرون في تسليمه خيانة وطنية، وعبد المنعم كان يعبّر عن هذا الغضب علنا، وخلال الأسابيع الأخيرة، لعب دورا قياديا في موجة احتجاجات ضد حكومة عبد الحميد دبيبة، منتقدا “عصابة” الحكم في طرابلس ومطالبا بإسقاطها، ولم يكن نشاطه محصورا في تويتر أو بيانات إعلامية، بل نزل إلى الشوارع وشارك في حراك منظم.

اختُطف المريمي في 30 يونيو بمدينة صرمان، على يد عناصر يُعتقد أنهم من جهاز الأمن الداخلي، وذلك وسط مزاعم بأنه أُجبر على ترك طفلَيه في السيارة، وهذه القسوة ليست استثناء، بل سلوك نمطي لجهاز أمني بات يُستَخدم لقمع المعارضين بدل محاربة الفوضى.
ثم نُقل لاحقا إلى النيابة العامة في طرابلس يوم 3 يوليو، وهناك تبدأ الرواية العبثية، حيث تقول النيابة تم الإُفرج عنه بعد الاستجواب، وأثناء انتظار أقاربه، قرر فجأة القفز من طابق مرتفع، في المقابل فإن التقرير الطبي يشير إلى نزيف داخلي في الرأس دون أي كسور أخرى أو آثار ارتطام، ما يعزز فرضية الضرب وليس السقوط، والأكثر غرابة هو أن عناصر الأمن المرافقة أمرت بمسح بياناته من منظومة المصحة، ما يفضح نية واضحة في طمس الأدلة.

النيابة في خدمة الأمن
إن بيان النيابة العامة لم يكن مجردا من السذاجة فحسب، بل بدا متواطئا، ففي دولة تفتقر إلى قضاء مستقل، لا يمكن عزل النيابة عن النفوذ الأمني أو السياسي، والبيان الذي صدر لتفسير “السقوط”، تضمن مفارقة صادمة، فالإفراج تم لكن لا أحد حضر ليأخذه، فقفز، فالجهاز الأمني المدجج بالأسلحة ترك معتقلا يتحرك بحرية بين الطوابق، وهو أمر غير مقنع.
الأخطر من ذلك أن جهاز الأمن الداخلي ينفي مسؤوليته عن وفاته، رغم أنه مَن اختطفه، وأخفاه، ثم سلّمه وهو في حالة “جيدة”، والنيابة تقول إن القرار صدر بإخلاء سبيله، بينما مصادر أخرى تؤكد أن الحبس مُدّد ستة أيام، وتباين الروايات يعكس فوضى الأجهزة، أو تواطؤها، أو كليهما معا.
المريمي ليس حالة فردية
في مشهد مألوف، تحولت وفاة المريمي إلى لحظة اشتعال شعبي، حيث خرج محتجون في طرابلس والزاوية وقطعوا الطرق، متهمين الأمن الداخلي بالجريمة، وهذا الغضب لم يكن بسبب المريمي وحده، ففي غرب ليبيا لا توجد ضمانات قانونية لأي مواطن وخاصة المعارضين، وتشير التقارير الحقوقية إلى وجود أكثر من 467 سجين رأي، وآلاف آخرين معتقلين في ظروف خارجة عن أي رقابة قانونية.
كما وثّقت الأمم المتحدة وجود 19 ألف سجين في سجون الدولة الرسمية حتى مايو 2024، أغلبهم لم يُعرضوا على محاكم، وهناك مئات من المعتقلين منذ سنوات بلا تهمة، ومراكز الاحتجاز الخارجة عن القانون التي تديرها ميليشيات هي الأسوأ، فهناك التعذيب ممنهج، والوفيات تحصل دون توثيق، والجثث تُدفن غالبًا دون أي تحقيق.

هل يستغل الدبيبة الأجهزة لتصفية خصومه؟
يبدو أن رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد دبيبة لا يكتفي بالهيمنة على الموارد، بل يسعى أيضا لتصفية خصومه السياسيين باستخدام أدوات الدولة التي يفترض أنها موجودة لحماية المواطن، فهو يستخدم الأمن الداخلي كأداة ترهيب ضد الناشطين.
ما يعزز هذا الطرح الصمت الكامل من جانب الحكومة بعد حادثة المريمي، إذ لم يصدر أي بيان عن مجلس الوزراء أو وزارة الداخلية، فأدنى أشكال الاستجابة هو فتح تحقيق علني أو استقالة وزير، أما في الغرب الليبي فالصمت يُفهم كنوع من التواطؤ، وربما كرسالة مبطنة بأن مصير كل معارض لا يختلف كثيرا عن ما حدث لـ” المريمي”.

المجتمع الدولي… صدمة بلا أدوات
الأمم المتحدة أعربت عن “صدمتها” ودعت إلى تحقيق “شفاف ومستقل”، لكن هذه الدعوات تتكرّر بلا أثر. فمثلما حدث مع سها مريقيوة، وسراج ضحمان، وغيرهم، لا أحد يُحاسب، والمجتمع الدولي يُدرك أن السلطة في طرابلس موزعة بين قوى الأمر الواقع، وهذا يعني أن أي تحقيق يجب أن يبدأ أولا بإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، وتفكيك الميليشيات، وهو أمر لا تملكه بعثة أممية محدودة الصلاحيات.

النهاية المفتوحة لحكاية الموت البطيء للعدالة
وفاة عبد المنعم المريمي ليست حادثة منفصلة، بل حلقة ضمن سلسلة طويلة من الإخفاء القسري والاعتقال التعسفي والتعذيب والقتل، وما حدث معه يكشف العجز التام في آليات المحاسبة، وذلك في ظل قضاء فاقد للاستقلال، وأمن داخلي يتبع مراكز قوة، لا العدالة ممكنة ولا الحقيقة واضحة.
كلما طُويت صفحة مثل هذه، من دون تحقيق حقيقي، تترسخ ثقافة الإفلات من العقاب، وتتآكل ما تبقى من شرعية الدولة، أما بالنسبة لليبيين، فالمريمي هو مجرد اسم آخر يُضاف إلى لائحة الذين دُفنوا بلا عدالة، في بلدٍ اختارت حكومته أن ترعب بدل أن تحكم، وتُسكت بدل أن تسمع.
بقلم مازن بلال
ليبيا.. طرد وفد أوروبي رفيع من بنغازي “تجاوز السيادة الوطنية”
