في طرابلس، لا يكاد أحد يناقش توصيات صندوق النقد الدولي المتعلقة برفع دعم الوقود إلا وتعلو ابتسامة ساخرة على وجهه، السبب بسيط: لا أحد يصدق أن حكومة عبد الحميد الدبيبة منتهية الولاية ستمضي في تطبيق الخطة، فتنفيذها انتحار سياسي مكلف، وربما نقطة النهاية في عمر سلطتها.
المجتمع الليبي يعيش حالة احتقان متصاعدة نتيجة سنوات من الغلاء المستفحل، والفساد الذي أنهك مؤسسات الدولة في الغرب الليبي وأثقل كاهل المواطن، وهذه التراكمات جعلت الشارع هشاً، وعلى حافة الغليان، حيث لم يعد يحتاج إلى ضغط كبير كي ينفجر، وأي خطوة تمس بشكل مباشر معيشة الناس، مثل رفع دعم الوقود، ستشكل الشرارة التي تشعل موجة غضب واسعة، لا يمكن التكهن بمداها ولا السيطرة على تداعياتها.

ثمن سياسي لا يحتمله أحد
خلال العام الماضي ظهر بوضوح هشاشة العلاقة بين السلطة والشعب، حيث هبطت شعبية الدبيبة إلى النصف بعد محاولات التلاعب بملف الدعم وخدمات الكهرباء، اليوم، ورغم الضغوط الدولية المتزايدة، لا يبدو أن الدبيبة أو حكومته يملكون الشجاعة أو الغطاء السياسي لرفع سعر لتر البنزين من 15 قرشاً إلى 3.3 دنانير خلال ثلاث سنوات، وفق ما يقترحه صندوق النقد الدولي، أي بنسبة تضخم تبلغ 2200%.
تنص الخطة الخاصة بالبنك الدولي على تعويض كل مواطن بمبلغ 510 دنانير شهرياً في نهاية فترة التطبيق، لكنها تفترض، ضمنياً، أن الدولة قادرة على تعويض الجميع بشكل منتظم وشفاف، وهذا الافتراض بعيد عن الواقع الليبي، فحكومة طرابلس تعجز عن صرف منحة الزوجة والأبناء بانتظام، ما يطرح تساؤلاً حول قدرة الدولة على تحمل مشروع بهذه الضخامة والتعقيد؟

الخلل في التشخيص لا في العلاج
يتعامل صندوق النقد مع ليبيا كأنها اقتصاد طبيعي يعاني خللاً مالياً تقليدياً، لكنها في الواقع تعاني “أزمة معقّدة لا تصلح معها أدوات الصندوق الجاهزة، فالمشكلة ليست فقط في فاتورة دعم الوقود، التي تجاوزت 17 مليار دولار في 2024 (ما يعادل 35% من الناتج المحلي)، بل في منظومة توزيع مختلة، حيث 30% من الوقود المدعوم يُهرَّب، وفق بيانات التقرير، ليصب في جيوب شبكات الفساد المحمية بالسلاح والنفوذ.
هل سيكون إلغاء الدعم حلاً؟ أم مجرد فتح جبهة جديدة من الصراع، وتُترك المشكلة الأصلية المتجسدة في التهريب والفساد وغياب الرقابة قائمة؟ المخاطرة في الإلغاء تكمن في تحويل الأموال التي توفرها خطة صندوق النقد إلى وقود لصراعات جديدة، لا إلى التعليم أو الصحة كما يدّعي المخطط.

إصلاح دون دولة
أكبر عائق أمام تنفيذ خطة الصندوق ليس اقتصادياً، بل سياسي بامتياز، ففي دولة تعاني أزمة سياسية حادة، وأجهزة أمنية متشظية في الغرب الليبي، لا وجود لسلطة يمكنها فرض أسعار جديدة على الوقود أو الكهرباء، أو حتى ضمان وصول الدعم النقدي للمواطنين، كيف يمكن لحكومة طرابلس التي فقدت شرعيتها منذ سنوات، وتخضع لضغوط ميليشيات مسلحة، أن تطبق إصلاحات اقتصادية شاملة؟
الصندوق يوصي بآلية تسعير تلقائية مرتبطة بالأسعار العالمية، وبأنظمة تحصيل مسبقة الدفع، وبتحويل عدادات الكهرباء إلى أنظمة إلكترونية، لكن كل هذا يفترض وجود مؤسسات عاملة، مستقلة، وموحدة، وهو ما لا يتوفر في ليبيا اليوم.

احتقان شعبي وخطاب رسمي مرتبك
لا يثق الشعب الليبي بالحكومة، ولا بصندوق النقد، والنقاش حول رفع الدعم بقي هامشياً بارداً، وكأن الجميع ينتظر أن تسقط الخطة من تلقاء نفسها، لكن تكرار الحديث عنها في الاجتماعات والتقارير الرسمية، والتشاور المستمر بين مصرف ليبيا المركزي وصندوق النقد، يعكس رغبة خفية، وربما ضغوطاً، لتطبيق بالخطة دون إعلان صريح.
لكن حتى لو مرّت الخطة نظرياً، فإن انعكاساتها ستكون كارثية، فكل القطاعات الاقتصادية من الزراعة إلى النقل والكهرباء ستتضرر بشدة، وسيتضاعف التضخم، وينهار ما تبقى من القوة الشرائية، أما الطبقات الفقيرة، التي تعتمد على الوقود المدعوم في حياتها اليومية، فستواجه عبئاً يفوق طاقتها، وهذا بالضبط ما يجعل الخطة غير مناسبة لبلد يعيش أزمة مركبة لا تحتمل تجارب جديدة.

الحل في كبح النزيف لا رفع السعر
ليس هناك من يرفض إصلاح نظام الدعم جذرياً، بل الجميع يتفق على أن فاتورة الوقود صارت عبئاً لا يمكن الاستمرار فيه، لكن الحل يبدأ من التنظيم والرقابة الصارمة، فالوقود المهرب يكلف الدولة 3 مليارات دولار سنوياً، وهو مبلغ كاف لإصلاح جزء كبير من العجز.
أولى الخطوات المطلوبة ليست رفع السعر، بل وقف النزيف، والرقابة على خطوط التوزيع، وتتبع رقمي للإنتاج والتوزيع، وإنهاء الاعتماد على المقايضة واستيراد البنزين المجهول الوجهة؛ بعدها يمكن الحديث عن تسعير عادل ومنصف.

أزمة ثقة قبل أن تكون أزمة دعم
ليست المشكلة في سعر البنزين، بل في غياب الدولة التي يمكنها تعديل هذا السعر دون أن ينفجر الشارع، وتوصيات صندوق النقد تبدو، في نظر كثير من الليبيين، كأنها كتبت لدولة خيالية، لا تشبه ليبيا في شيء، وستظل هذه الخطط حبراً على ورق، تُناقَش ويتم نقدها ثم تُنسى.
أما الحكومة طرابلس فتدرك أن آخر شيء يمكنها فعله الآن هو استفزاز الشارع بقرارات اقتصادية تنهكه، فالشعب فقد ثقته بالحكومة، ولن ينتظر طويلا ًقبل أن يُسقط كل من يجرؤ على تجريده من آخر فتات الدعم المتبقي.
بقلم نضال الخضري
الاتحاد الأوروبي والإفريقي يدعمان خريطة طريق أممية جديدة لحل الأزمة الليبية
