منذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1973 الذي فرض حظرا جويا على ليبيا بحجة حماية المدنيين عبر “جميع التدابير الضرورية”، وتعقيدات المشهد الليبي تتراكم على الأخص بعد انهيار النظام السياسي ومؤسسات الدولة، فالقرار الذي أثار جدلاً واسعًا حول التدخل الخارجي في الشأن الليبي جاء بناء على طلب من الجامعة العربية، وتم بحجة التدخل الإنساني لوقف قتل المدنيين من قبل نظام القذافي حسب نص طلب الجامعة العربية، لكن كافة العمليات العسكرية التي قام بها حلف الناتو لم تكن قادرة على خلق استقرار جديد، أو حتى في إعادة رسم المصالح الغربية بشكل مختلف.
عمليا فإن مرحلة ما بعد القذافي دفعت المصالح الغربية باتجاهات مختلفة، فليبيا تمتلك موارد اقتصادية هائلة مع موقع جغرافي مميز، وأدى ظهور أطراف جديدة أبرزهم الإسلام السياسي والتيار العسكري لخلق تضارب مصالح بين القيادات السياسية سواء في شرق أو غرب ليبيا مع الأطراف الدولية، وهو ما حول التدخل العسكري من قبل الناتو إلى محاولة رسم الأدوار من جديد، لكن التعامل الغربي مع المسألة الليبية لا ينفصل عن تناقضات الأدوار الإقليمية التي نشأت نتيجة التدخل العسكري الغربي المباشر، وهو ما حفزت الأطراف الدولية على تقديم دعم لمختلف الأطراف المتصارعة في الصراع الليبي، وبشكل خاص الدعم العسكري الذي كرس حالة من عدم توازن القوى الداخلية، إضافة لـمحاولة بعض الأطراف الخارجية إفساد عملية السلام.
واشنطن و”الدعم الخلفي”
ما يطفو على السطح هو الدعم الإقليمي للأطراف الليبية المتصارعة، فرغم أن ليبيا ما تزال تحت الحظر الدولي لتجارة الأسلحة، لكن ذلك لم يمنع الدول الخارجية من تزويد حلفائها بالعتاد العسكري، حيث شكلت الحدود المصرية الليبية معبرا لتمويل قوات حفتر عبر عتاد عسكري قادم من الإمارات، وفي الجهة المقابلة، قامت تركيا بتقديم تمويل عسكري لمقاتلين عملية فجر ليبيا، ومع ميل الموازين لقوات حفتر في حرب طرابلس، تدخلت تركيا لتعيد موازين القوى بين الأطراف عبر اتفاقية التعاون العسكري، وزودت حكومة الوفاق بالعتاد، وهذا الأمر يتم بالتأكيد مع معرفة من عواصم اتخاذ القرار في الغرب، فالتدخل الخارجي في حالة ليبيا تحول من الشكل العسكري المباشر باتجاه مساحات جديدة.
بالنسبة لأوروبا غدت ملفات الهجرة غير النظامية، ومحاربة الجماعات الموصوفة بالإرهاب التي تتخذ من الساحل والصحراء مسرحا لنشاطها، دافعا جديدا للتدخل الذي تحول من ملف اقتصادي إلى ملف أمني وإنساني أساسي في أجندات الدول الأوروبية، فالقوى الغربية شجعت بالتغاضي أو الإيحاء بالقبول، الأدوار الإقليمية على العبث باستقرار ليبيا، فالإدارة الأمريكية فضلت التعامل “من الخلف” مع هذا الملف، حيث ساندت جهود بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا والوساطات التي تجريها بين الليبيين التي أفضت إلى توقيع اتفاق سياسي بمدينة الصخيرات المغربية في 17 كانون أول 2015، فاستخدمت “الواقعية المفرطة” دون محاولة التدخل مما جعل استراتيجيتها تعتمد على السياق الذي تجري فيه الأحداث، أكثر من اعتمادها على محددات صلبة تسير باتجاه تحديد هدف معين، فهي لم ترسم هدفا يتعلق باستقرار ليبيا، أو قيام دولة ذات خصائص معينة، بقدر ما وضعت مجموعة من المحاذير تتعلق أساسا بالنقاط التالية:
- ضمان تدفق النفط إلى السوق الدولية وعدم تسربه إلى كيانات تحسبها واشنطن معادية، وهو ما يعكسه تدخل بارجة أمريكية لإلقاء القبض على سفينة تحمل علم كوريا الشمالية حاولت نقل شحنة نفط في آذار 2014.
- عدم تحول ليبيا إلى مركز جذب وتسليح وتمويل للتنظيمات التي تضعها واشنطن على قوائم الإرهاب مثل تنظيم الدولة والقاعدة. وهو ما ظهر في الدعم الذي حظيت به العمليات العسكرية ضد تنظيم الدولة بسرت، والتي شارك فيها الطيران الأمريكي بفعالية كبيرة.
- مساعدة حلفاء واشنطن الأوروبيين خاصة إيطاليا بشأن المخاوف من تفاقم تدفق المهاجرين الذين قاربوا مئتيْ ألف مهاجر عام 2016.
تناقضات الدور الأوروبي
يصعب الحديث عن استراتيجية موحدة لدول الاتحاد الأوروبي في ليبيا، فهناك عدم تناغم في السياسات الأوروبية وما هو حاصل ينقل تنافسا حادا بين فرنسا وإيطاليا، بينما يظهر تردد بريطاني حيال أي موقف أو تدخل، أما ألمانيا فلديها مقاربة تتوافق مع الموقف الإيطالي، ويمكن فهم التضارب في المواقف الأوروبية عبر السياسات التي تتضح وفق النقاط التالية:
- بالنسبة لفرنسا فهي قامت بمسايرة مبادرات الأمم المتحدة، ممثلة في اتفاق الصخيرات والحكومة المنبثقة عنه ظاهريا، والتحالف مع حفتر واقعيا، ففي عام 2015 كشفت صحيفة “لوموند” الفرنسية عن وجود قوات فرنسية تقاتل إلى جانب قوات حفتر ببنغازي، وهو ما تعزز باعتراف فرنسا بمقتل جنود لها هناك بعد ذلك بأشهر قليلة، أما الجانب الآخر فهو أمن منطقة الصحراء الكبرى التي تنشط فيها كبريات الشركات الفرنسية (“توتال” و”أريفا”) بحثا عن الذهب واليورانيوم والنفط، وتدخلها في ليبيا يعد امتدادا لحملتها العسكرية سنة 2013 ضد الجماعات المسلحة في شمال مالي، كما يعد إحدى ثمار تحالفها مع الإمارات ومصر.
- لإيطاليا مصالحها الأكبر في ليبيا، فهي تعتمد على تدفق النفط والغاز اللذين يشكلا أكثر من 70% من احتياجاتها في مجال الطاقة، ونتيجة مصالحها القديمة في ليبيا فإن استراتيجيتها قائمة على قاعدة “لا غالب ولا مغلوب” في الصراع الحالي، فدعمت اتفاق الصخيرات والحكومة المنبثقة عنه، واستطاعت استيعاب جميع المكونات العسكرية والسياسية والأمنية الموجودة في الغرب والوسط، والقابلة بالانضمام إلى شرعية الاتفاق السياسي، وتسعى لتحصل على دعم أكبر لمجهوداتها من الإدارة الأمريكية، ولا تخفي قلقها من الدور المصري والإماراتي والذي تعتبره مزعزع للاستقرار في ليبيا. وفي هذا السياق يمكن أن يفهم جزئيا توتر علاقاتها مع مصر في العامين الماضيين.
يبدو التنافس الأوروبي معطلا للحلول السياسية من خلال التنافس حول المصالح الليبية، فدعم العملية السياسية المعطلة منذ عام 2020 لا يعود إلى الأطراف الليبية بذاتها إنما للقاعدتين الدولية والإقليمية التي تتوفر لهما عبر محاولة الولايات المتحدة الإيحاء بأنها منصرفة عن الموضوع الليبي لصالح الأمم المتحدة، في وقت تتعامل فيه مع السياسات الأوروبية من زاوية انتظار عملية “الانهاك” التي تفرضها التوترات الأمنية في ليبيا.
بقلم مازن بلال
الأمم المتحدة: 1.1 مليار شخص يعيشون في فقر مدقع نصفهم من الأطفال