05 ديسمبر 2025

هدوء حذر في العاصمة الليبية طرابلس، والخوف من عودة الاشتباكات، مع مواصلة حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، تنفيذ خطتها لتفكيك التشكيلات المسلحة.

ويأتي هذا الهدوء الحذر في وقت لا تزال فيه الأجهزة الأمنية المتورطة في المواجهات الأخيرة منتشرة في مناطق متقابلة تفصلها خطوط تماس، بحسب ما أفاد مصدر ليبي رفيع.

وأوضح المصدر أن الاشتباكات اندلعت مجدداً الأحد الماضي، قبل أن تهدأ الأوضاع إثر دخول قوة تابعة لجهاز الأمن العام التابع لوزارة الداخلية في حكومة الدبيبة إلى منطقة سكنية قريبة من تمركزات جهاز “الردع لمكافحة الإرهاب” التابع للمجلس الرئاسي.

واستفاقت طرابلس مؤخراً على أصوات اشتباكات عنيفة، أطاحت بآمال الليبيين في استمرار الهدنة بين “جهاز الردع” والأمن العام”، حيث اندلعت المواجهات في مناطق متفرقة من العاصمة، أبرزها محيط طريق “الطبي”، وجزيرة “الفرناج”، وبعض الشوارع الخلفية.

وأكد شهود عيان أن تلك المناطق تحولت إلى ساحات قتال استخدمت فيها الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، في ظل انتشار آليات ومدرعات، وإغلاق عدد من الطرقات، وامتدت آثار العنف إلى “مقبرة سيدي منيدر” التي اندلع فيها حريق التهم أجزاء منها، في مشهد وثقته كاميرات مواطنين ناشدوا السلطات إرسال فرق الإطفاء لإنقاذ المكان.

وبحسب مصدر أمني رفيع في طرابلس، فإن السبب الرئيسي لتجدد الاشتباكات يعود إلى دخول قوة من جهاز الأمن العام إلى منطقة سكنية قريبة من تمركزات “قوة الردع”، وأوضح أن اللجنة المكلفة بمراقبة وقف إطلاق النار تواجه تحديات كبيرة، على رأسها عدم التزام معظم الفصائل المسلحة بالانسحاب من مواقعها.

وأشار المصدر أيضاً إلى استمرار وجود تمركزات مسلحة على خطوط تماس في عدد من الأحياء، ما يهدد بعودة الاشتباكات، وتشير المعطيات إلى أن بعض القوى المشاركة في القتال تتبع حكومة الدبيبة، مثل “اللواء 444″، و”اللواء 111″، وقوة “الأمن العام”، فيما تقف “قوة الردع” إلى جانب المجلس الرئاسي، مدعومة من كتائب أخرى بينها جهازا الهجرة والأمن القضائي.

وكشف مصدر مطّلع في طرابلس أن الحكومة أصدرت قرارات بحل عدد من التشكيلات الداعمة لقوة “الردع”، بينها “الأمن القضائي” و”مكافحة الهجرة غير الشرعية”، إلا أن هذه التشكيلات لم تلتزم بتنفيذ القرار، وأكد المصدر أهمية تبنّي ترتيبات أمنية جديدة، تشمل حل ودمج بعض الجماعات المسلحة وإعادة هيكلتها بشكل رسمي.

وفي خضم التصعيد، جدّد الدبيبة، التزامه بفرض سلطة الدولة، متعهداً بمحاسبة من يعبث بالأمن أو يبتز مؤسسات الدولة، وقال خلال اجتماع لمجلس وزرائه إن حكومته ماضية في تنفيذ مشروع “ليبيا خالية من المليشيات والفساد”، مؤكداً أن من يهدد استقرار البلاد لن يُترك دون محاسبة.

وبالمقابل، تحرك رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، بصفته القائد الأعلى للجيش في الغرب، عبر إصدار قرارات بتشكيل لجنتين لمعالجة الأوضاع، وتضمنت هذه الخطوات إنشاء لجنة مؤقتة للترتيبات الأمنية والعسكرية في طرابلس، تُعنى بوضع وتنفيذ خطة شاملة لإعادة تنظيم المشهد الأمني، استناداً إلى التشريعات والمرجعيات السياسية المعتمدة.

وتهدف اللجنة الأمنية، التي شكّلها المجلس الرئاسي، إلى إخلاء العاصمة طرابلس من جميع المظاهر المسلحة، وتمكين القوات النظامية من أداء مهامها في بيئة مستقرة وآمنة، وذلك بهدف تعزيز سلطة الدولة وترسيخ سيادة القانون، أما اللجنة الثانية، وهي لجنة حقوقية مؤقتة، فتتولى مراجعة أوضاع السجون ومراكز الاحتجاز، لحصر حالات التوقيف التي جرت خارج الإطار القانوني، من دون أوامر من القضاء أو النيابة العامة.

وتأكيداً على التنسيق المسبق، نشرت حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية مراسلة وجّهها الدبيبة إلى المنفي قبل يومين من صدور القرارات، تضمّنت أسماء الجهات الممثلة في اللجنتين، غير أن المراسلة خلت من ذكر جهاز “الردع”، وهو ما أثار تساؤلات بعد نشر قرارات المجلس الرئاسي التي لم تتضمّن الجهاز أيضاً ضمن لجنة الترتيبات الأمنية.

ورغم هذا التباين، بدت نوايا الطرفين متجهة نحو احتواء الأزمة وتخفيف التوتر، في هذا السياق، رحبت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بتشكيل اللجنتين، معربة عن استعدادها لتقديم الدعم الفني بما يتماشى مع المعايير الدولية.

ورغم هذه المبادرات، ما زال التوتر يخيم على العاصمة، إذ شهدت طرابلس اشتباكات عنيفة بعد أيام قليلة من إعلان اتفاق بين الدبيبة والمنفي على إخلاء المدينة من المسلحين.

ووسط هذا التصعيد، تجدد الغضب الشعبي، حيث خرج مئات الليبيين في تظاهرات أسبوعية وسط المدينة، مطالبين باستقالة حكومة الدبيبة، في إشارة إلى عمق الاستياء من استمرار الفوضى وغياب الحلول السياسية.

وأوضح مصدر أمني أن غالبية المتظاهرين المناهضين لحكومة الدبيبة ينحدرون من حي سوق الجمعة، الذي يُعد معقلاً لقوة “الردع” التابعة للمجلس الرئاسي، لكنه أشار في الوقت نفسه إلى أن مشاركة البعض في التظاهرات نابعة من مشاعر الإحباط واليأس من قدرة النخب السياسية على إنهاء الانقسام ووقف الاقتتال.

وفي المقابل، شهدت العاصمة مظاهرة مؤيدة لحكومة الدبيبة، رفعت شعارات تطالب بحل المجموعات المسلحة ورفض الحرب داخل طرابلس، ورغم تباين الشعارات، اتفقت مطالب المحتجين من الجانبين على ضرورة ضبط السلاح وإنهاء الفوضى الأمنية داخل الأحياء السكنية.

ورغم المحاولات الرامية إلى تثبيت التهدئة، استبعد المحلل السياسي الليبي فرج دردور استمرار الهدنة، واعتبر في حديثه أن “الصراع القائم في طرابلس بات صراع وجود: إما بقاء حكومة الدبيبة، أو بقاء قوة الردع”، وأضاف أن الأخيرة تضغط على الحكومة من خلال الحراك الشعبي في سوق الجمعة بهدف دفعها نحو الاستقالة.

ومن جهته، رأى العميد عادل عبد الكافي، المستشار العسكري في الأمن القومي بالمجلس الأعلى للدولة، أن “المجلس الرئاسي هو الطرف المبادر نحو الهدنة”، معتبراً أنها محاولة لإرساء قدر من الاستقرار الأمني والعسكري في العاصمة والمنطقة الغربية بشكل عام.

وقال عبد الكافي، المستشار العسكري في المجلس الأعلى للدولة، إن الأزمة الأمنية في طرابلس تعود في جزء كبير منها إلى تداخل الصلاحيات بين الأجهزة المختلفة، وهو ما أدى إلى خلل بنيوي في هيكلة القوات الأمنية، وأوضح، أن قرارات أصدرها المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق السابقة، بقيادة فايز السراج، منحت بعض التشكيلات المسلحة تبعية مباشرة، مما مكّنها من صلاحيات تفوق تلك الممنوحة للمؤسسات النظامية.

وأضاف عبد الكافي أن هذا التداخل أدى إلى تجاوزات واسعة، شملت فرض نفوذ بعض التشكيلات على مؤسسات مدنية وحكومية، بل ووصل الأمر حد تعيين شخصيات محسوبة عليها في مواقع حساسة داخل الوزارات، ما أضعف من قدرة الدولة على فرض الانضباط.

ودعا عبد الكافي المجلس الرئاسي الحالي إلى صياغة خارطة طريق أمنية شاملة تشمل طرابلس والمنطقة الغربية، كخطوة ضرورية نحو هدنة دائمة واستقرار مستدام.

ويرى مراقبون أن الاشتباكات الأخيرة لم تكن سوى حلقة متكررة من مسلسل طويل من الاضطرابات الأمنية، تعكس أزمة أعمق تتعلق بعدم قدرة الحكومات المتعاقبة على كبح جماح التشكيلات المسلحة التي تتقاسم النفوذ داخل العاصمة.

ورغم أن انفجار المواجهات بدا مفاجئاً للبعض، إلا أن مطلعين على المشهد وصفوا الوضع الأمني في طرابلس بأنه “قنبلة موقوتة”، بالنظر إلى الانتشار الكثيف للسلاح وغياب هيكلة موحدة تحت مظلة الدولة، فطوال سنوات، ظل النفوذ موزعاً بين جماعات مسلحة لم تُدمج فعلياً في المؤسسات الرسمية.

وكانت أحداث السادس من مايو الماضي قد سلّطت الضوء مجدداً على هشاشة الوضع، بعدما شهدت العاصمة اشتباكات عنيفة استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة، وأسفرت عن اغتيال عبد الغني الككلي، المعروف بـ”غنيوة”، قائد “جهاز دعم الاستقرار” التابع للمجلس الرئاسي، وهو فصيل مسلح يتمركز في منطقة أبو سليم ويمتلك نفوذاً واسعاً لا يقتصر على الجانب الأمني بل يمتد إلى قطاعات اقتصادية مهمة.

ولم يكن عبد الغني الككلي، المعروف بـ”غنيوة”، مجرد شخصية أمنية، بل أحد أبرز قادة التشكيلات المسلحة النافذة في طرابلس، ما جعل اغتياله حدثاً مفصلياً في المشهد الليبي، فمع استهدافه، سادت حالة من الارتباك والذعر، خصوصاً في أوساط سكان العاصمة الذين يدركون تماماً ما يعنيه تغييب أحد أعمدة النفوذ الأمني فيها.

وفي اليوم التالي، اندلعت معارك منفصلة بين قوات تتبع حكومة الدبيبة، و”قوة الردع”، الفصيل المسلح الذي يسيطر على مناطق حيوية شرق طرابلس، من بينها المطار وأكبر سجون العاصمة.

وبعد صمت، تبنّت حكومة الدبيبة العملية، واصفة إياها بأنها “عملية ناجحة”، وهو موقف زاد المخاوف من انفجار الوضع الأمني، فمنذ اغتيال “غنيوة”، لم تهدأ طرابلس، والهدنة المعلنة بعد ذلك بدت كمن يقف على “رمال متحركة”، وسط مؤشرات كانت تنذر بالأسوأ في الكواليس.

وفي خضم هذا التوتر، أعلنت حكومة الدبيبة قراراً يقضي بـ”تفكيك جميع الميليشيات” التي تتقاسم النفوذ بالعاصمة، متهمة إياها بأنها “أصبحت أقوى من الدولة”، خطوة كان من الطبيعي أن تعيد رسم خارطة النفوذ، لكنها، بحسب خبراء، أشبه بـ”سيف ذي حدين” في ظل تضارب الولاءات وتشابك المصالح.

ويرى المحلل السياسي الليبي فرج دردور أن حكومة الدبيبة تسعى لتجميع كافة التشكيلات المسلحة التابعة لها بهدف الضغط على “قوة الردع” وتفكيكها، مؤكداً أن “الدبيبة ووزير داخليته، عماد الطرابلسي، عقدا العزم على حل قوة الردع لأنهم يعلمون أنها لن تقبل الانضواء تحت إدارتهم، خاصة بعد إزاحة قوة غنيوة من المشهد”.

ولكن دردور أعرب عن شكوكه بإمكانية تنفيذ هذا المشروع، مشيراً إلى أن “تجارب السنوات الماضية أثبتت أن تفكيك التشكيلات المسلحة غير ممكن، لأنها تمتلك المال والنفوذ، وتغلغلت في مؤسسات الدولة، بل وامتدت علاقاتها إلى الخارج”.

وبدوره، اعتبر المحلل السياسي أحمد المهدوي أن مشروع تفكيك الميليشيات في طرابلس “شائك ويحتاج إلى ترتيبات دولية”، موضحاً أن معظم هذه المجموعات المسلحة على تواصل خارجي وتتلقى دعماً من قوى إقليمية ودولية”.

ورأى المهدوي أن الدبيبة “يحاول استبدال ميليشيات العاصمة بأخرى من خارجها، وتحديداً من مدينة مصراتة”، مسقط رأسه، معتبراً أن “ذلك قد يؤدي إلى صبغة جهوية للصراع”.

وشدد على أن الحل يتطلب “خريطة واضحة لحصر الميليشيات ليس فقط في طرابلس، بل في جميع مدن الغرب الليبي، خاصة مصراتة التي تعج بأكثر من 180 تشكيلاً مسلحاً.

وتوقّع المهدوي تجدد الاشتباكات بشكل أكثر عنفاً، مستنداً إلى ما قال إنها “حشود عسكرية كبيرة دخلت من مصراتة إلى طرابلس”، لكنه استبعد اندلاع حرب أهلية شاملة، لأن “الصراع الحالي هو بين مجموعات مسلحة تتناحر على النفوذ، وليس بين مكونات المجتمع الليبي”.

وأضاف أن فشل الترتيبات الأمنية التي يشرف عليها المجلس الرئاسي، وعجز رئاسة الأركان عن فرض هدنة حقيقية، يزيدان من فرص الانفجار مجدداً.

ومع ذلك، يرى فرج دردور أن نجاح حكومة الدبيبة في تفكيك بعض الميليشيات رغم أنه احتمال ضعيف، قد يعزز فرصها في التفاوض مع شرق البلاد، ويمهّد الطريق أمام توحيد مؤسسات الدولة.

وفي رؤيته للمرحلة المقبلة، دعا المهدوي البعثة الأممية إلى تجاوز سياسة “إدارة الأزمة”، والعمل على “تشخيص المشكلة بشكل صحيح”، معتبراً أن “الأزمة أمنية في الأساس”.

واقترح خطوات عدة، أولها إشراف دولي على نزع سلاح الميليشيات وتفكيكها، وثانيها “تمكين السلطات الرسمية من مؤسستي الجيش والشرطة”، وثالثها “إطلاق حوار سياسي يضم أطرافاً وطنية غير مستفيدة من الوضع القائم”.

وأما العميد عادل عبد الكافي، المستشار العسكري في المجلس الأعلى للدولة، فشدد على أن المجتمع الدولي وضع تفكيك التشكيلات المسلحة كخطوة أولى نحو استقرار ليبيا، مؤكداً أن هذا المسار لا بد أن يستمر، رغم ما يعتريه من تعقيدات.

البرلمان الليبي يعبر عن قلقه من حرائق الأصابعة ويدعو لتحقيق شامل

اقرأ المزيد