22 نوفمبر 2024

تمثل الأزمة بين مصرف ليبيا المركزي وحكومة الوحدة الوطنية في طرابلس مشهدا لتنافس إقليمي ودولي، ينعكس بشكل مباشر على مؤسسات الدولة بكل مفاصلها.

عندما ظهرت حكومة الوحدة الوطنية حملت معها التناقض حول المصالح الغربية داخل ليبيا، فرغم أن الانقسام والتشتت داخل المجتمع الليبي هو واقع قائم منذ عام 2011، لكنه في النهاية ظهر بشكل مختلف عام 2014 على إيقاع رسم خارطة نفوذ اقتصادي ما بين الشرق الليبي وغربه، وفشل التوصل لدستور تليه انتخابات لا يطرح الإخفاق السياسي للقوى السياسية الليبية، وإنما صورة لتعزيز مراكز قوى، وتبعيات لشبكات اقتصادية ومالية.
عمليا فإن كلا من رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة ومحافظ مصرف ليبيا المركزي، الصديق الكبير، يمثل جناحا واحدا ضمن الخارطة السياسية، والأزمة المالية ليست أمرا مستجدا، فالصديق الكبير شغل منصب محافظ المصرف لأكثر من عقد، والانتقادات الحادة التي توجه إليه اليوم تحمل مؤشرات على أن الخلافات لا ترتبط بمساحة الاستقرار المطلوبة بليبيا إنما من محاولة التعامل مع التحول الجديد بعد استقالة عبد الله باتيلي، واحتمالات إعادة نظر واشنطن في توزع مصالحها داخل المؤسسات الليبية، فوجود ستيفاني خوري بالنسبة للعديد من الأطراف السياسية في الغرب الليبي، تعني في النهاية ظهور تصورات أمريكية جديدة، وتحالفات بشروط مختلفة.
خلفيات النزاع
تكمن جذور الخلاف في سلسلة من الأحداث السياسية والاقتصادية التي عصفت بليبيا في السنوات الأخيرة، حيث تتنافس العديد من القوى والأطراف على السلطة والنفوذ واستخدام غطاء دولي عبر مصالح مختلفة داخل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ومن هذه الزاوية أصبح مصرف ليبيا المركزي محورا للصراعات السياسية، فهو مفتاح السيطرة على الموارد المالية للبلاد.
بالنسبة للصديق الكبير فإن تقريرا كتبه كبير الباحثين في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية “ولفرام لاتشر” يحلل استمراره في موقعه منذ 2011 رغم كل الاضطرابات، فعندما انقسمت إدارة المصرف المركزي بين شرق وغرب البلاد بعد 2014، سيطر الكبير على مصرف ليبيا المركزي في طرابلس، بما في ذلك رموز “سويفت” التي تستخدمها البنوك للتعرف على بعضها البعض، ما يعني وجود الموارد النفط تحت سلطته وامتلاكه النفوذ في مسائل الانفاق الحكومي.
واستمر مصرف ليبيا المركزي في دفع رواتب موظفي الدولة، بما في ذلك رواتب منتسبي المجموعات المسلحة، فهو الممول الرئيسي لها عبر رجل أعمال ليبي يُقيم في مصراتة، كما ارتبطت بعض الشركات التي تستفيد من خطابات الاعتماد بالفصائل المسلحة، وهناك حالات موثقة لتهديد لعدد من الصحفيين والإعلاميين الليبيين وذلك عقب إثارة بعضهم لقضايا فساد مصرف ليبيا المركزي في طرابلس، أو حتى شراء ذمم البعض لتجنب التطرق للفساد المستشري في مصرف ليبيا المركزي، إلى جانب عمليات احتيال تمت من خلال استغلال الفارق بين سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف في السوق السوداء، لتمويل العمليات المالية الخاصة خارج إطار الميزانيات الرسمية المعلنة.
نجح الصديق الكبير في الحفاظ على منصبه من خلال تكيفه المستمر مع المشهد السياسي المتغير في ليبيا، والاعتماد على شبكة من الحلفاء في مجلسي النواب والدولة، ورغم محاولات استبداله، استطاع البقاء عبر تطوير تحالفات مع الفصائل السياسية المختلفة، فاستمرار الانقسام السياسي والصراع المسلح في ليبيا هو ما يمنع التغيير في قيادة المصرف المركزي، واحتمال إقالته اليوم نتيجة اتهامات بعدم التعاون مع الحكومة ورفضه الإفراج عن الأموال التي طلبها الدبيبة، مرهون بطبيعة تغير التأثير الأمريكي بالدرجة الأولى على التوازن في الغرب الليبي، وإقالته تثير مخاوف من زيادة التوترات في المنطقة الغربية، نتيجة الانقسام في ولاءات الفصائل المسلحة واحتمالية استغلال بعض الأطراف لإقالته المحتملة لفرض سيطرتهم على الاحتياطات النقدية الليبية، ما يزيد من حدة الاضطرابات.
مسألة الموازنة والرواتب
جاء الجدل حول الموازنة نتيجة التناقض السياسي أكثر من كونه خلافا بشأن الاستراتيجية المالية، حيث تشير التقديرات إلى أن عدد موظفي الدولة تضاعف تقريبا منذ سقوط القذافي إلى 2,4 مليون، من إجمالي 7 ملايين نسمة، ورغم تضخم الجهاز الحكومي، فإن المدارس والجامعات والمستشفيات الحكومية في حالة تدهور، فالبيانات المالية الصادرة عن مصرف ليبيا المركزي لشهر مارس 2024 توضح بشكل صارخ الخلل الواضح في طبيعة الاقتصاد الليبي، وبغض النظر عن وجهات النظر بشأن الميزانية فإن الأرقام تشير إلى أن الإنفاق على التنمية معدوم، وأن الاعتماد على إيرادات النفط باتت المصدر الوحيد في الاقتصاد الليبي، حيث بلغت وفق تقرير المصرف المركزي لشهر آذار 23.8 مليار دينار ليبي، مع مبيعات وصلت 19.3 مليار دينار ليبي، أي ما يمثل أكثر من 80% من إجمالي الإيرادات، في المقابل فإن إيرادات الضرائب كانت ضئيلة جدا، وبلغت 52 مليون دينار ليبي فقط.
ويوضح الرسم البياني التالي طبيعة الإيرادات الليبية وفق بيانات البنك المركزي:
بالنسبة للإنفاق فإن إجمالي النفقات بلغ 13.5 مليار دينار ليبي، أغلبه مخصص للرواتب التي بلغت 10,3 مليار دينار ليبي، ما يعني أن أكثر من 75% من إجمالي الإنفاق ذهب للرواتب، حيث يشير هذا النمط من الإنفاق إلى وجود تحديات كبيرة في الاستثمار في البنية التحتية والمشاريع التنموية، حيث لم يتم تخصيص أي إنفاق لهذه المجالات، وهوما يوضحه الرسم البياني التالي:
عمليا فإن هذه الأرقام تعكس تحديات اقتصادية عميقة في ليبيا تتجاوز الخلاف بين الدبيبة والصديق الكبير، فهي نموذج فقط عن الخلل الاقتصادي المتراكم الذي أدى للتضخم الأخير، فالتركيز الكبير على المرتبات يشير الى تضخم النفقات الحكومية، وهو أمر بات مفهوما في عملية صياغة الولاءات للدولة عبر توسيع التوظيف وزيادة الكادر البشري في المؤسسات لاسترضاء القوى الموالية للحكومة في الغرب الليبي، وهذا الأمر حد من الموارد المتاحة للاستثمار في المشاريع المستقبلية.
الصورة الكاملة للصراع بين الدبيبة والصديق الكبير تتضح أكثر عندما تصبح قراءة بيانات المصرف المركزي مستندة إلى البعد السياسي الأعمق، فجهاز الدولة المترهل نتيجة زيادة عمليات التوظيف هو غاية سياسية بذاتها لتثبيت الولاءات لمراكز القوى داخل الدولة، بينما يبدو الصراع الحالي نتيجة المخاوف من فقدان هذه الولاءات، أو حتى من انتهاء الغطاء السياسي الذي تمنحه الولايات المتحدة لبعض الشخصيات السياسية نتيجة تركيزها الجديد على ليبيا.
ويظهر تصاعد التوتر بين رئيس الحكومة ومحافظ المصرف المركزي إلى مواجهة مرتبطة بوجود حكومة الدبيبة، فرفض الصديق الكبير الإفراج عن الأموال التي طلبها الدبيبة، سيفقده شرعية الاستمرار نتيجة انهيار الولاءات حوله المعتمدة أساسا على جهاز الدولة المتضخم، ولكن جرأة الصديق الكبير هي رهان أيضا على دعم واشنطن لبقائه، فالطرفان يتنازعان ضمن دائرة السياسة الأمريكية في ليبيا، مستندين إلى التبدلات الممكنة التي يمكن أن تحملها المشاريع السياسية لواشنطن بعد استقالة المبعوث الأممي.
بقلم مازن بلال
قذائف تستهدف منزل رئيس الحكومة الليبية في طرابلس

اقرأ المزيد