05 ديسمبر 2025

اعتماد المجلس الأعلى للدولة في ليبيا لخارطة الطريق الأممية التي طرحتها المبعوثة الخاصة للأمم المتحدة،هانا تيتيه، كان لحظة مفصلية خلطت الأوراق بين القوى الليبية والدولية، وأطلقت حراكاً سياسياً كشف عمق الانقسام البنيوي في مؤسسات الدولة، والتناقض بين الإرادة الليبية والوصاية الخارجية.

ففي الوقت الذي رأت فيه بعثة الأمم المتحدة في هذا الاعتماد خطوة إيجابية تؤسس لمسار انتخابي واضح خلال 12 إلى 18 شهراً، اعتبره خصوم المجلس، من الشرق والغرب على حد سواء، محاولة لإحياء الخلافات القديمة وإعادة إنتاج الأزمة بثوب جديد، وبين هذين الموقفين، تتجلى حقيقة مأساة ليبيا الحديثة من خلال صراع مستمر على الشرعية في ظل فراغ مؤسساتي وتمزق وطني مزمن.

خارطة الطريق الأممية: الأمل المؤجل

ترتكز خطة تيتيه على ثلاث ركائز أساسية تبدأ بإعادة تشكيل مجلس المفوضية العليا للانتخابات، ثم صياغة إطار قانوني وفني جديد للانتخابات، وتشكيل حكومة موحدة تشرف على المرحلة الانتقالية وصولاً إلى اقتراع عام، والخطة في جوهرها محاولة جديدة لتجاوز مأزق انتخابات ديسمبر 2021 التي أُجهضت قبل ساعات من موعدها.

لكنّ مسار الخطة تعثّر منذ بدايته، فبعد مرور أكثر من ستة أسابيع على طرحها، لم تتحقق أي خطوة عملية على الأرض، وأفقد البطء في التنفيذ، وغياب التنسيق بين البعثة والمجلسين، وتضارب المصالح الدولية، الخارطة من زخمها وتحولت إلى “خارطة خلاف”.

الانقسام الدولي: واشنطن ليست الأمم المتحدة

أبرز مظاهر هذا التعثر ظهر في التواطؤ الضمني بين بعض الأطراف الليبية والدولية لتعطيل المسار، فبينما تدعم الأمم المتحدة مساراً تدريجيا ًشاملاً بقيادة مؤسسات ليبية متجددة، ترى واشنطن أن الحل يمرّ عبر تسريع الانتقال السياسي وتشكيل حكومة تكنوقراط قوية قادرة على ضبط الأمن واحتواء النفوذ الروسي المتزايد في الشرق.

هذا التباين في الرؤية بين واشنطن والبعثة الأممية انعكس مباشرة على مواقف الأطراف الليبية في الغرب، التي وجدت في هذا التناقض فرصة للمناورة، وأصبحت بعض الكيانات السياسية مثل حكومة عبد الحميد الدبيبة منتهية الولاية تميل إلى الخط الأمريكي، بينما تحتمي قوى أخرى بالمظلة الأممية لتثبيت مواقعها.

الدبيبة يصب الزيت على النار

داخل هذا المشهد المأزوم، أقدم عبد الحميد الدبيبة على خطوة وُصفت بأنها “مستفزة” حين أصدر قراراً منفرداً بتعيين سليمان مسعود رئيساً للمؤسسة الوطنية للنفط، بعد أن كان يشغل المنصب بالإنابة، وأعاد القرار معركة النفوذ على قطاع النفط، العمود الفقري للاقتصاد الليبي، وأثار موجة انتقادات من مجلس النواب  الذي اعتبر الخطوة خرقاً للتفاهمات السابقة.

لم يكن الأمر تقنياً بقدر ما كان سياسياً بامتياز، حيث أراد الدبيبة أن يبعث برسالة مزدوجة؛ الأولى إلى الداخل، بأنه لا يزال يمسك بمفاصل الدولة رغم انتهاء شرعيته الزمنية، والثانية إلى الخارج، بأنه شريك لا يمكن تجاوزه في أي تسوية أممية قادمة.

القضاء بين التسييس والاستقلال

على الضفة الأخرى، اشتعلت معركة جديدة حول استقلالية القضاء، بعد أن أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكماً يقضي بتحصين قرارات مجلس النواب المتعلقة بتعيينات القائد العام للجيش وترقيات الضباط، ما يعني ضمنياً تثبيت شرعية المشير خليفة حفتر في موقعه.

رئيس المجلس الأعلى للدولة محمد تكالة ردّ ببيان حاد اللهجة وصف فيه الحكم بأنه “تهديد لوحدة السلطة القضائية وخطوة خطيرة لتسييس القضاء”.

هذا الصدام بين المؤسستين التشريعيتين كشف هشاشة النظام القضائي الليبي، الذي بات ساحة لتصفية الحسابات السياسية، فالقضاء الذي يُفترض أن يكون صمام الأمان في أي عملية انتخابية قادمة، أصبح هو ذاته موضع شك واتهام، ما يهدد بتقويض الثقة في أي مسار ديمقراطي.

المناصب السيادية: المحاصصة على حساب الدولة

إحدى القضايا الأكثر احتداماً اليوم تتمثل في آلية تعيين شاغلي المناصب السيادية، فبينما أعلن عضو مجلس النواب عبد المنعم العرفي أن المجلسين اتفقا على المضي قدماً في توحيد هذه المناصب بدءاَ من المفوضية العليا للانتخابات، وكشفت مصادر داخل مجلس الدولة أن الخلاف لا يزال قائماً حول آلية الاختيار والتوازن الجغرافي والمؤسساتي.

وتعكس هذه الخلافات صراعاً أعمق حول من يمتلك الحق في رسم ملامح المرحلة المقبلة، هل هو مجلس النواب الذي يستند إلى شرعية انتخاب 2014، أم مجلس الدولة الذي يزعم تمثيل الاتفاق السياسي بالصخيرات، وبينهما تتنازع القوى الإقليمية والدولية على موطئ قدم في مؤسسات الدولة الحساسة.

قانون الانتخابات.. المربع الأول

القنبلة الموقوتة في المشهد الليبي اليوم هي الجدل حول إمكانية تعديل القوانين الانتخابية مجدداً، رغم التوافق السابق عبر لجنة (6+6). فالتعديلات المقترحة تمس ثلاث قضايا محورية:

  1. أهلية العسكريين للترشح، بما يشمل حفتر وأسامة الجويلي وغيرهما.
  2. ازدواج الجنسية، وهي قضية تطال معظم الطبقة السياسية.
  3. مشاركة المحكومين قضائياً، في ظل قضاء متقلب يُصدر أحكاماً سياسية خلال أيام، كما حدث مع وزير النفط السابق محمد عون.

المشير خليفة حفتر جدد رفضه القاطع لما وصفه بـ”الحلول المفروضة من الخارج”، مؤكدا أن خريطة الطريق الحقيقية يجب أن تكون ليبية خالصة تنبع من إرادة الشعب لا من مكاتب البعثات الدولية، وجاء موقفه منرؤية تعتبر أن السيادة لا تُستعار من الخارج، وأن بناء الدولة لا يتحقق إلا عبر مؤسسات وطنية موحدة تنطلق من الشرعية المحلية.

وبينما تتخبّط الأطراف الأخرى في رهاناتها على الدعم الخارجي، فإن حفتر بصفته القائد العام للقوات المسلحة العربية الليبية يعتبر أن ترسيخ الأمن والاستقرار في الشرق والجنوب هو الأهم، لأنه ركيزة توازن تحفظ كيان الدولة وتمنع انهيار مؤسساتها.

بين الإرادة الليبية والمصالح الدولية

في العمق، ليست الأزمة الليبية اليوم صراعا حول النصوص بل حول النفوذ، فالأمم المتحدة، رغم نواياها المعلنة، لم تستطع فرض جدول زمني واضح ولا ضمان حياد الأطراف، أما القوى الدولية مثل واشنطن فترى في ليبيا ساحة لتصفية حسابات إقليمية، لا مشروع دولة مستقلة.

عمليا فإن الأطراف الليبية وقعت في فخ التوازنات الخارجية، وأي صفقة تُفرض من الخارج سيدفع ثمنها الشعب الليبي وحده، فخارطة الطريق الأممية مجرد أداة تفاوض إضافية بين القوى المتصارعة، لا مشروعاً حقيقياً لإنهاء الانقسام.

الحوار المهيكل.. محاولة أخيرة

خطورة هذا المأزق دفعت البعثة الأممية لإعداد “خطة بديلة”؛ تقوم على إطلاق ما تسميه “الحوار المهيكل” بين ممثلين سياسيين واجتماعيين ومدنيين، لتجاوز جمود المجلسين، وحسب ما تسرّب من أروقة الأمم المتحدة، فإن الفكرة تتمثل في تشكيل لجنة تأسيسية بديلة تتولى تعديل القوانين الانتخابية ووضع أسس حكومة مؤقتة جديدة، وهي “مجازفة سياسية”، لكنها آخر الأوراق المتاحة قبل انهيار المسار الأممي بالكامل.

الأزمة الليبية في جوهرها اليوم ليست أزمة نصوص أو لجان، بل أزمة ثقة في فكرة الدولة ذاتها، فكل خريطة طريق، مهما كانت صياغتها دقيقة، لن تنجح دون إرادة وطنية تتجاوز الانقسام، ومع غياب هذه الإرادة، يبقى الأمل الليبي مؤجلا ًريثما يتفق الخارج على شكل الحل الذي سيُفرض على الداخل.

بقلم: نضال الخضري

ليبيا.. العثور على جثمان قبطان سوداني قائد مركب مصري

اقرأ المزيد