العنوان الأهم في ليبيا اليوم لم يعد يدور حول سؤال هل ستندلع الاشتباكات في طرابلس؟ بل متى وكيف؟ ومع تواتر التقارير والتحليلات، بات السؤال الأكثر واقعية وإلحاحاً ما الذي يمكن فعله لتجنب انزلاق ليبيا إلى أتون حرب أهلية جديدة؟
طرابلس، العاصمة المتخمة بالسلاح والولاءات الهشة، تشهد منذ مايو 2025 مشهداً أمنياً متصدعاً يُنبئ بتحول نوعي في مسار الصراع المسلح، فاغتيال عبد الغني الككلي (غنيوة) واشتباكات اللواء 444 مع قوة الردع الخاصة بقيادة عبد الرؤوف كارة، أبرز مثال على أن العاصمة لم تعد تدار بحكومة بل بميزان معقد من القوة المسلحة، قائم على تحالفات متقلبة وتفاهمات تكتيكية موقتة.

كيان أمني متآكل وتحالفات هشة
وصف تقرير مبادرة “بيانات مواقع وأحداث الصراعات المحلية” الصادر عن مشروع ACLED (مبادرة بحثية توثّق الأحداث العنيفة والصراعات المحلي)، الحالة الأمنية في طرابلس بأنها تمر بـ”إعادة معايرة” مستمرة، ولم يعد الصراع حول مَن يحكم، بل كيف يمكن لأي طرف أن يحكم وسط شبكة مسلحة أقرب لعصابات محلية تأخذ شكل المؤسسات داخل أجهزة الدولة، وما أفرزته هذه البنية هو اشتباكات مستمرة، رغم عنفها، غالباً ما تكون قصيرة وغير حاسمة، لكنها تؤدي دائماً إلى إعادة التفاوض على النفوذ والمال.

من جهة أخرى، تعتمد حكومة عبد الحميد الدبيبة منتهية الولاية على الترتيبات البينية والرشوة السياسية (التمويل الحكومي، توزيع المناصب، شراء الولاءات)، بدلاً من أي إصلاح مؤسسي حقيقي، لكن مع انخفاض العائدات النفطية والأزمة المالية، بدأت هذه الأدوات في التآكل، ويبدو أن المال لم يعد يكفي لشراء ولاء البنادق.
الاحتراب بين “الدولة” و”الميليشيا”.. لا منتصر
الخطاب التصعيدي الأخير لعبد الحميد الدبيبة، الذي قال فيه: “صبرنا نفد وآن الأوان لبسط سلطة الدولة”، لم يكن حديثاً لبناء وطن، بل إعلان عن اصطفاف جديد نحو مواجهة مفتوحة، قوامها تصفية الخصوم داخلياً قبل أي حديث عن تسويات سياسية أو انتخابات، فالدبيبة أساسا لا يملك شرعية وهو أيضا يستند في بسط نفوذه على ميليشيات وليس مؤسسات وجيش نظامي.

لكن هل الحرب المفتوحة هي الحل؟ التقارير الأمنية والسياسية تؤكد أن “العنف المفتوح” لا يخدم حتى مصالح الميليشيات نفسها، بسبب توازن الرعب المتبادل، وغياب فصيل قادر على الحسم السريع،فكل طرف يعرف أن الآخر مسلح، ومحصّن اجتماعياً، ومرتبط بقوى خارجية.
تحشيد وتربّص يستمران
عملياً استقالة الدبيبة وحدها لن تخلق تغييراً، كما أن استمرار التهديد بحلّ الميليشيات دون أدوات واقعية يعني انزلاقاً متسارعاً نحو الحرب، والمشكلة لم تعد في الأشخاص، بل في البنية ذاتها، فالسلطة رخوة مع سلاح غير منضبط، في ظل فراغ سياسي، ومشاريع بديلة غير ناضجة سيؤدي لمزيد من عدم الاستقرار.
الحل لا يكمن في إعادة تدوير نفس الأسماء، ولا في تسويات شكلية، والمطلوب هو مشروع سياسي واضح يدعمه الداخل قبل الخارج، يضع نزع السلاح ودمج المسلحين تحت قيادة أمنية ومؤسساتية شفافة كأولوية مطلقة، لا كـ”بند” مؤجل بعد الانتخابات، وهذا يعني ضرورة تفكيك البنية غير الرسمية للحكم، بما فيها الكيانات شبه المستقلة مثل جهاز الردع التي تكرّس ازدواجية السلطة وتُقوّض مبدأ سيادة الدولة.

كما يفرض الواقع الأمني المتدهور التوصل إلى اتفاق واضح والتفاهمعلى خطة أمنية شاملة، تُشرف على تنفيذها لجان محايدة، تنهي تعدد مصادر القرار والسلاح، وعلى الصعيد السياسي، ولا بد أيضاً من إطلاق مرحلة انتقالية تقودها شخصيات غير تقليدية تحظى بتوافق وطني فعلي، بعيداً عن التوازنات الشكلية التي أثبتت عجزها، بينما تبقى مسألة نزع السلاح داخل المدن الكبرى، وخاصة طرابلس، ركيزة لا يمكن تجاوزها، من خلال حظر شامل للمظاهر المسلحة تترافق مع ضغوط اقتصادية وعسكرية على الأطراف المعرقلة.
التطبيع مع الفوضى
الأسوأ من الحرب هو التعايش مع حافة الحرب، فأن تُدار الدولة عبر التفاهم مع المسلحين، وتُعلّق القرارات السيادية في انتظار رضا كارة أو غيره، سيبقي العاصمة رهينة التهديد كل ليلة.

المجتمع الدولي، الذي غض الطرف لسنوات عن عسكرة العاصمة، يتحمل مسؤولية، كما تتحملها بعثة الأمم المتحدة، التي فشلت في فرض تطبيق أهم بنود اتفاق الصخيرات المتمثل في تفكيك الميليشيات.

أما الفرقاء المحليون، فيدفعون بالبلاد نحو الهاوية دون مشروع، ودون برنامج، ودون مسؤولية، والحقيقة المؤلمة هي أن أي صراع جديد لن يكون له فائز، لكن الكل فيه خاسر، والشعب أولهم، فلا يمكن بناء دولة على سلاح متمرد، ولا انتخابات في ظل سلطة منقسمة، ولا سلم في ظل عدالة غائبة.
بقلم: نضال الخضري
مصر وليبيا تعززان التعاون الأمني لمواجهة التهديدات الإقليمية
