تتجه الجولة الثانية من الانتخابات البلدية في ليبيا نحو نهايتهامع مفارقة توضح أزمة سياسية حادة، فبعد التأجيل، منذ شتاء العام الماضي، ظهر هذا الاستحقاق المحلي كمرآة لأزمة الشرعية والحوكمة التي تعصف بالبلاد منذ سنوات.
انتخابات منزوعة الدسم
رغم ما تحمله الانتخابات البلدية عادة من رمزية ديمقراطية، وتطلعات نحو تعزيز الحكم المحلي وتمكين المجتمعات من إدارة شؤونها، فإن الجولة الحالية جرت في ظل ظروف تقلل كثيراً من قيمتها السياسية والتمثيلية، فمن جهة، سُجلت نسبة مشاركة متدنية إلى حد مقلق، تعكس فقدان الثقة في العملية الانتخابية وجدواها، ومن جانب آخر ألغيت الانتخابات في 11 بلدية معظمها في الشرق والجنوب، دون مبررات قانونية شفافة، ما حرم أكثر من 150 ألف ناخب و1000 مرشح من حقوقهم.

جاء هذا الإلغاء بناءً على توصيات سياسية رأت ضرورة تعليق توزيع البطاقات الانتخابية في عدد من البلديات للحفاظ على الأمن العام، وضمان سير العملية الانتخابية في بيئة مستقرة، ورغم صدور القرار دون توضيحات موسعة، لكنه أثار بعض التأويلات في الأوساط السياسية، ما يسلّط الضوء على أهمية تكثيف التواصل داخل المؤسسات، وتقديم الشروحات اللازمة لتعزيز ثقة المواطنين ودعم مسار الانتخابات.
انتهاكات ممنهجة وأدوات قمع
وثّق تقرير صادر عن منظمة “رصد الجرائم الليبية” في السادس من أغسطس سلسلة من الاعتداءات الممنهجة التي طالت مراكز توزيع بطاقات الناخبين في عشر بلديات، وهي انتهاكات اعتبرتها المنظمة واسعة النطاق، وتستهدف تقويض العملية الانتخابية من أساسها، وأشار التقرير إلى تعرض مرشحين في مناطق مثل العزيزية لاعتداءات من قبل جهات مجهولة، إضافة إلى تسجيل حالات اعتقال تعسفي طالت نشطاء في طرابلس، ونُسبت إلى أجهزة أمنية محلية، هذه الأحداث تعكس حجم التحديات الأمنية التي تحاصر العملية الانتخابية، وتؤكد أن مناخ التهديد والتضييق لا يزال قائماً، ما يضعف فرص المشاركة الحرة ويقوّض مبدأ التنافس العادل.

وعلى الرغم من دعوات المنظمة المتكررة إلى ضرورة فتح تحقيقات مستقلة وشفافة في هذه الحوادث، ومحاسبة المسؤولين عنها وفق الأطر القانونية، فإن المساءلة في ليبيا لا تزال تعاني من غياب شبه تام، بسبب تعقيدات المشهد السياسي وتداخل السلطات الأمنية مع العملية الانتخابية، وهذا الواقع يسهم في تعزيز ثقافة الإفلات من العقاب، ويُضعف من قدرة المؤسسات القضائية على أداء دورها الرقابي، ويهدد ثقة المواطنين في مصداقية الاستحقاقات الانتخابية، التي يفترض أن تكون ركيزة للتحول الديمقراطي وليس مناسبة لإعادة إنتاج أدوات السيطرة والنفوذ.
المفوضية بين المطرقة والسندان
بدت المفوضية العليا للانتخابات وكأنها تتحرك وسط بيئة سياسية وأمنية شديدة التعقيد، تحاول فيها الالتزام بالجدول الزمني والاستحقاقات الفنية، لكنها تواجه تحديات كبيرة ناجمة عن قرارات سلطات محلية تتصرف خارج نطاق التنسيق بين المؤسسات، ففي بعض البلديات، مثل جنزور، اضطرت المفوضية إلى إيقاف توزيع بطاقات الناخبين نتيجة تدخلات إدارية من رؤساء مجالس يرفضون إنهاء ولاياتهم، ما شكّل عقبة أمام سير العملية الانتخابية بسلاسة.

وفي موازاة هذه التطورات، أعلنت المفوضية استبعاد 60 مرشحاً و4 قوائم انتخابية كاملة بسبب عدم استيفائهم شرط التزكية، وفقاً للائحة التنفيذية”، وأثار هذا القرار تساؤلات في الأوساط الانتخابية بشأن طبيعة هذه الشروط وإمكانية استخدامها كأدوات إقصاء تحت غطاء تنظيمي، ما يستدعي المزيد من الشفافية والتدقيق لضمان تكافؤ الفرص بين جميع المرشحين.
ديمقراطية شكلية بلا عمق
رغم ضعف المشاركة، والانتهاكات، وغياب التنافس الحقيقي، من الممكن أن تُقدَّم هذه الانتخابات، أو ما تبقى منها، كـ”نجاح” جديد للديمقراطية الليبية، وهذا الخطاب الذي يتكرر عقب كل استحقاق انتخابي، يخفي واقعاً أكثر تعقيداً، حيث تُفرغ الانتخابات من مضمونها، وتُستخدم كأداة شرعنة شكلية للسلطات القائمة، دون أن تترجم فعلياً إلى تعزيز للتمثيل أو تحسين للحكم المحلي.

فالبلديات في ليبيا، رغم الحديث عن دورها الخدمي، ظلت دائماً محاصرة بصلاحيات محدودة، وتعتمد تمويلياً وإدارياً على الحكومات المركزية، كما تخضع لرقابة سياسية وأمنية دائمة، ما يجعل المجالس المنتخبة رهينة توازنات تتجاوز إرادة الناخبين.
صراع الولاءات لا الديمقراطية
تشير قراءة المشهد السياسي إلى أن قرار تعليق الانتخابات في بعض البلديات لم يكن اعتباطياً، بل جاء في إطار تقديرات مدروسة تستند إلى اعتبارات تتعلق بالأمن والاستقرار العام، فهناك خشية مشروعة من أن تؤدي هذه الانتخابات، في حال افتقارها للضوابط، إلى بروز شخصيات لا تتمتع بالكفاءة أو الانسجام مع متطلبات المرحلة، الأمر الذي يفتح المجال لتجاذبات داخلية أو تناقضات في الإدارة المحلية، لا تصب في صالح المصلحة العامة.

ورغم أن دور المجالس البلدية يظل محصوراً في الشأن الخدمي والتنظيمي، فإن طبيعة المجتمع الليبي المعقدة، بما فيها من امتدادات قبلية وتشابكات جغرافية وسياسية، تجعل من هذه الانتخابات محطة ذات حساسية خاصة، ويُنظر إلى ضبط إيقاعها وإحكام آلياتها بوصفه خياراً ضرورياً لحماية التوازنات المحلية وضمان استقرار المسار الإداري والسياسي.
دور أممي باهت وضغوط محدودة
بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، رغم تعبيرها عن “قلق بالغ”، اكتفت بالمطالبة بمعالجة أسباب التعليق وتهيئة الظروف المناسبة لاستئناف الانتخابات، دون اتخاذ خطوات ملموسة لمحاسبة المتورطين أو الضغط الجاد لإلزام السلطات بإجراء الانتخابات وفق معايير النزاهة، وهذا الأداء الدبلوماسي الباهت يعكس محدودية التأثير الأممي في السياق الليبي، لا سيما في ظل تراجع الاهتمام الدولي بالملف، وتشتت الأولويات الإقليمية والدولية.

ما شهدته ليبيا في الانتخابات البلدية هو محاولة لإحياء المسار الديمقراطي رغم الظروف المعقدة والانقسامات التي تمر بها البلاد، ورغم تعدد السلطات وتباين الرؤى حول الأولويات الوطنية، فإن بعض الأطراف تحاول الدفع بالعملية الانتخابية دون ضمانات كافية تضمن النزاهة والشفافية، ما يحوّلها أحياناً إلى استحقاقات شكلية تفتقر إلى العمق الديمقراطي الحقيقي، وتُستغل سياسياً في سياقات لا تخدم الاستقرار ولا تعكس الإرادة الشعبية الفعلية.
وإجراء انتخابات حقيقية يستوجب توفير بيئة سياسية وأمنية مواتية، وإصلاح المنظومة القانونية والرقابية بما يكفل حياد المفوضية واستقلال قراراتها، أما الاستمرار في فرض مواعيد انتخابية دون معالجة الأسباب الهيكلية للأزمة، فلن يؤدي سوى إلى تعميق حالة الانقسام.
بقلم: نضال الخضري
محكمة فرنسية تعلن مواعيد نظر استئناف ساركوزي في قضية التمويل الليبي
