05 ديسمبر 2025

لم يكد يهدأ صدى الزلزال السياسي الذي سببه سجن وزير التعليم المكلف علي العابد، حتى تصدّرت فضيحة جديدة عناوين الأخبار، وهذه المرة تطال وزير التعليم العالي عمران القيب في حكومة الدبيبة منتهية الولاية.

وكشفت التقارير تورط القيب في استغلال المنصب بشكل فج، لكن دون مساءلة ودون استقالة، هذا التكرار لوقائع الفساد في قطاع التعليم لا يعكس فقط خللاً إدارياً أو تجاوزات فردية، بل يُمثّل ظاهرة لمرض بنيوي ينخر في عظام حكومة الدبيبة، ويهدد ما تبقى من شرعيتها.

من العابد إلى القيب: حلقة فساد بلا نهاية

لم يكن اعتقال العابد حدثاً مفاجئاً، بل نتيجة متوقعة لمن يتتبع سيرة حكومة يتهاوى فيها هيكل الدولة قطعةً تلو الأخرى، فالعابد، الذي تولى ثلاث وزارات دفعة واحدة، التعليم والعمل والخدمة المدنية، وأُوقف بعد أن منح عقدا لطباعة 15 مليون كتاب مدرسي لشركة حديثة النشأة، بقيمة 129 مليون دينار، دون مناقصة أو شفافية.

لم تمر أيام على سقوط العابد، حتى فُتِحت صفحة فساد جديدة بطلها وزير التعليم العالي، فالوزير عمران القيب يستخدم برنامج الإيفاد للدراسة في الخارج لتسهيل رحلة سياحية لأبنائه إلى البوسنة وتركيا، بعد انتهاء فترة إيفادهم الرسمية، والوثيقة المسرّبة، التي أثارت جدلاً واسعاً، تؤكد أن الأمر ليس سوء تقدير، بل تجاوز فاضح للقانون.

ومع ذلك لم يستقل القيب، ولم يتم التحقيق معه، وحتى لم يُستدعَ حتى ليوضح، بل ما زال في منصبه، يُشرف على قطاع بأكمله، رغم أن فعله كاف لإسقاط حكومة كاملة في بلد يحترم مؤسساته.

التعليم: مرآة لتحلل الدولة

ليس غريباً أن يكون قطاع التعليم هو الأكثر فضحاً لانهيار الدولة، فعندما يُحرم 2.5 مليون طالب من كتبهم في بداية العام الدراسي بسبب فساد التعاقدات، وعندما يبتعث أبناء المسؤولين على حساب المتفوقين، وتُحجب المنح عن المعيدين والكفاءات، فليس ذلك فشلا ًفي الإدارة، بل إعلاناً رسميا ًعن غياب الدولة.

الكتاب المدرسي، الذي يفترض أن يكون أداة لبناء الإنسان، تحوّل في ليبيا إلى رمز وطني للأزمة تتكرر كل عام، وتُقابل بتبريرات باهتة، وغياب للمساءلة، وتحوُّل المال العام إلى غنيمة، فتبخر 11 مليون دينار في عقود طباعة الكتب، وعدم تطابق المطبوعات للمواصفات، ليس إلا رأس جبل الجليد، فالحقيقة أن الفساد في قطاع التعليم لا يُعالج بالعزل أو الحبس المؤقت، لأنه متجذر في آلية الحكم ذاتها.

وحدة وطنية أم حكومة البقاء بأي ثمن؟

حكومة الدبيبة، التي يُفترض أنها حكومة “وحدة وطنية”، صارت عملياً حكومة “الوزراء المتعددي المهام”؛ بعد استقالات وإقالات وتحقيقات طالت أكثر من نصف أعضاء الحكومة، ولم يتبقَّ للدبيبة إلا حفنة من الوزراء، كل واحد منهم يدير ثلاث وزارات، لكن الواقع أن هذه الترقيعات لا تخفي الحقيقة، فلا كفاءات ولا شرعية.

وأسوأ من ذلك، أن ثقافة الإفلات من العقاب باتت هي القاعدة، فكيف يمكن تفسير احتفاظ رئيس الحكومة بنفسه بحقيبة الدفاع منذ 2021، أو إيفاد موظف في الخارجية لحضور مؤتمر طبي في نيويورك، بتكاليف من وزارة الصحة، أو تخصيص منح دراسية لأشخاص لا علاقة لهم بالتعليم.

كل هذه الوقائع تشير إلى أن الدولة الليبية تُدار بنهج الغنيمة، لا المؤسسات، وبعقلية “من يحكم يُقرر”، لا “من يحكم يُحاسَب”.

النيابة العامة: بارقة الأمل الوحيدة

في هذا المشهد القاتم، تبرز النيابة العامة بقيادة الصديق الصور كمؤسسة نادرة تحاول مقاومة السقوط الكامل، فهو من فتح ملفات الفساد في طباعة الكتب، والتحقيق في الإيفاد الوهمي، ثم تجميد تفويضات مالية مشبوهة، وتبدو النيابة وكأنها المؤسسة الوحيدة التي تحاول، بقدر ما تسمح به ظروف الصراع، إعادة الدولة إلى قواعدها.

وما صرّحت به النائبة عائشة الطبلقي حول “وجوب اقتلاع الفساد من الجذور” يعكس حالة وعي بدأت تتشكل داخل النخب الليبية، وإن ظلت بعيدة عن الترجمة إلى إصلاحات حقيقية.

فضيحة الإيفاد: فساد منظم.. واستفزاز للمجتمع

إذا كان عقد طباعة الكتب كارثة مالية، فإن ملف الإيفاد كارثة أخلاقية، وتسريب مراسلات تخص أبناء مسؤولين تم إيفادهم بغرض الترفيه، أو نشر قوائم تضم أسماء أقارب لقادة ميليشيات أو طلبة بلا مؤهلات، بينما ينتظر آلاف المعيدين والطلاب المتفوقين دورهم منذ سنوات، فهذه ليست فقط حالة فساد، بل استفزاز مباشر لضمير المجتمع.

الاحتجاجات التي نظمها “حراك الإيفاد” في أغسطس، وتصريحات تنسيقية المعيدين بأن ليبيا باتت “الدولة العربية الوحيدة التي تمنع الإيفاد عن المتفوقين وتمنحه لأبناء المسؤولين”، تختصر المأساة.

السخرية باتت وسيلة الليبيين الوحيدة لمواجهة واقعهم، فيتندرون على “حكومة الفراغ الوطني”، ويشككون في كل وعود الإصلاح، لكن الأخطر هو ما يشعرون به تجاه المجتمع الدولي، الذي رغم معرفته بكل ما يجري، لا يزال يعترف بحكومة الدبيبة، وفي نظر الشارع، هذا الدعم الخارجي ليس إلا “تواطؤاً ناعماً” مع نظام لم يعد يمثل إلا نفسه.

سؤال اللحظة: إلى أين تذهب ليبيا؟

الوقائع الأخيرة تفرض أسئلة وجودية على الدولة الليبية؛ فهل يمكن إصلاح ما فسد؟ وهل يمكن بناء دولة بقضاء مستقل ووزراء بلا ملفات فساد؟ وهل يمكن للطلاب الذين حُرموا من الكتاب والإيفاد أن يكونوا نواة لمستقبل أفضل؟

في كل هذه الأسئلة، لا يبدو أن لدى حكومة الدبيبة أي إجابة، لكنها عاجزة حتى عن طرح السؤال، ووحده القضاء، وبعض الأصوات الحرة، تحاول إنقاذ ما تبقى.

ما يحدث في ليبيا اليوم، وتحديدا في قطاع التعليم، ليس فقط فشلاً في الإدارة، بل في بناء دولة، فمن سجن وزير إلى سكوت وزير آخر، ومن غياب كتب إلى منح وهمية، ومن حكومة نصفها موقوف إلى قضاء يُحاصَر، كل المؤشرات تقول أن “النظام ينهار من الداخل”.

وسط كل هذا الانهيار، تظهر فرصة، لأن تبدأ ليبيا بمواجهة المرض لا الأعراض، وأن تدرك أن الكتاب ليس مجرد ورق، وأن الوزير ليس فوق القانون، وأن الوطن ليس غنيمة، وإلا، فإن السؤال لن يكون عن وزير جديد يسقط، بل متى تسقط الدولة كلها.

بقلم: نضال الخضري

مواضيع متعلقة:

اعتقال وزير التعليم الليبي… عَرَض لمرضٍ بنيوي ينهش حكومة الدبيبة

 

الدبيبة يدعو لتحرير الصناعة الليبية: القطاع الخاص قائد النمو

اقرأ المزيد