كانت إفريقيا دائماً مطمعاً للاستعمار الأوروبي، سواء بسبب موقعها الجغرافي أو بسبب مواردها الطبيعية التي اعتمد عليها المستعمرون في بناء أوروبا الحديثة.
لم تختلف الأوضاع كثيراً في القرن الـ 21، فمازال الأوروبيون مستمرون في استغلال الثروات الطبيعية في القارة السمراء، مستعملين هذه المرة “الخطاب الديموقراطي” وسيلة جديدة في محاولة فرض السيطرة على المستعمرات السابقة.
في هذا المقال، نناقش الطرق التي يتبعها المستعمرون في محاولة الاستمرار في السيطرة على مستعمراتهم، بعد سرد تاريخي للطرق التي اتبعتها إيطاليا، والظروف المرافقة التي استثمرتها في سلب الموارد الليبية والإفريقية.
بداية الاستعمار
بدأت إيطاليا التوسّع في إفريقيا وبناء المستعمرات منذ عام 1882. في عام 1911، وبالتوازي مع الضعف والتفكك الذي ضرب بنية الدولة العثمانية، استغلت إيطاليا اتفاقية وقعتها مع روسيا تتعلق بالمضائق البحرية، وحصلت على دعم من بريطانيا وفرنسا، شركاؤها في تقاسم “الغنيمة الإفريقية”، لترسل قواتها وتبدأ احتلال ليبيا.
بعد قصف عنيف استهدف طرابلس وسلسلة من الهجمات والعمليات العسكرية، أصدر السلطان العثماني فرماناً في 15 أكتوبر 1912، تمّ بموجبه منح الحكم الذاتي الكامل لكل من طرابلس الغرب وبرقة، وانسحبت بموجبه قوات السلطنة العثمانية تاركة البلاد لتواجه الغزو الإيطالي بمفردها.
جرائم حرب.. وديكتاتور صغير
بين عامي 1915 و 1918، اقتصرت السيطرة الإيطالية في ليبيا على الموانئ في طرابلس ودرنة وبنغازي. وكان ذلك مهيناً للطموحات الاستعمارية الإيطالية.
علاوة على ذلك، اضطرت إيطاليا إلى تقديم تنازلات للقبائل العربية والأمازيغية التي قاومت. كانت مقاومة السكان قوية جداً لدرجة أن إيطاليا أبرمت معاهدة سلام مُنحت بموجبها طرابلس الحق في إجراء انتخابات برلمانية، وحرية الصحافة، كما تم البدء في منح الجنسية الإيطالية للسكان الليبيين المسلمين.
في عام 1920، اعترفت السلطات الإيطالية بمحمد إدريس السنوسي، قائد الطريقة السنوسية الصوفية، وأبرمت معه أول معاهدة للحكم الذاتي في برقة.
في عام 1923، بدأ يبحث بينيتو موسوليني عن “السيطرة الكاملة على المستعمرات”، كان يريد كل الموارد الطبيعية وتسخيرها لخدمة إيطاليا.
تمكن الفاشيون، في شمال إفريقيا، من القبض على خليج سيدرة، على غرار الإمبراطورية الرومانية.
أراد الديكتاتور الإيطالي أن يبدأ التوسع والغزو عبر الصحراء الكبرى والكاميرون وساحل المحيط الأطلسي والقرن الأفريقي.
بالتزامن مع ذلك، كانت حركة المقاومة الشعبية تنمو، كما أصبحت منطقة فزان الجنوبية ملجأ لأغلب القبائل الذين مانوا يحاربون الغزاة الإيطاليين في مجموعات صغيرة.
الأساس الأول للاستعمار: القبض على الموارد
بدأ الفاشيون مرحلة جديدة من الحرب الاستعمارية، لم تستهدف المقاومة المحليّة فقط، وإنما ضد جميع السكان. تحت شعار “استعادة ليبيا الفاشية” بدأت إيطاليا احتلال البلاد بأكملها، طرابلس وفزان وبرقة.
في البداية، قاموا “بتهدئة” طرابلس فقط، حيث توجد أربعة أخماس الأراضي الليبية الخصبة، كان ذلك عام 1923.
كانت سياسة الغزو برمتها تهدف إلى الاستيلاء على الأراضي الصالحة للزراعة وتدمير البنية القبلية الإسلامية التقليدية للمجتمع الليبي. تم طرد السكان المحليين من المناطق الساحلية الخصبة إلى المناطق القاحلة، واستقدام مزارعين صقليين.
وفي عام 1923، أصدر الحاكم الإيطالي جوسبي فولبي قراراً بمصادرة جميع الأراضي المملوكة لـ “الثوار” الليبيين أوالأشخاص الذين يدعمون المقاومة. حصل الحاكم فولبي لنفسه على مليوني هكتار من الأراضي ليصبح أكبر مالك للأراضي في شمال إفريقيا.
تكتيكات الاستعمار
أقدم الاستعمار الإيطالي على تنفيذ العديد من عمليات التطهير العرقي ونزع السلاح والاعتقالات والإعدامات ضد المقاومين الليبيين، واستخدم لتنفيذ ذلك الجنود الإريتريين الذين كانوا معروفين بقسوتهم وساديتهم، حينها.
الأساس الثاني للاستعمار: التخويف والترهيب
استخدم موسوليني الغاز السام في ليبيا، وكان حاكمها، إميليو دي بونو، يحب أن يراقب عن كثب النتائج القاتلة للغازات السامة. مآسي 6 يناير 1928 في واحة جيفة معروفة: تدمير قبيلة مغربة المتمردة بغاز الخردل.
ارتكبت إيطاليا الجرائم والفظائع، واستخدم موسوليني الغازت السامة، برغم توقيعه عام 1925 على بروتوكول اتفاقية جنيف الذي يحظر استخدام الغازات الخانقة أو السامة أو ما شابه ذلك في العمليات العسكرية.
مقاومة الاستعمار
حافظت الطريقة السنوسية على حضورها واحتلت مكانة كبيرة في مجتمع برقة، كما تمكنت من توفير الملاجئ وأماكن لعقد الاجتماعات، وإقامة الطقوس الدينية وإدارة عمليات المقاومة. كان عمر المختار يقود ما بين 2000 إلى 3000 من مقاتلي الصحراء.
لسحق المقاومة التي كان نجمها يسطع، أمر نائب الحاكم الايطالي جراتسياني بتركيب سياج من الأسلاك الشائكة بطول 270 إلى 300 كيلومتر وعرض 4 أمتار مع نقاط تفتيش محصنة على طول الحدود مع مصر. قطعت التحصينات المتمردين عن إمدادات الأسلحة وتلقت المقاومة ضربة لم تستطع التعافي منها.
لحقت الهزيمة الحاسمة بالمقاومة في سبتمبر 1931. وأثناء المعركة تعثر حصان عمر المختار فألقى بالزعيم الليبي البالغ من العمر أكثر من سبعين عاماً. حكمت عليه المحكمة الإيطالية بالإعدام شنقاً بشكل علني.
معسكرات الاعتقال
في أبريل 1926، زار موسوليني مدينة طرابلس وأعلن بداية سياسة فاشية جديدة في منطقة شرق المتوسط وإفريقيا. تصاعدت الأعمال العسكرية الإيطالية في ليبيا لتصل إلى مرحلة الإبادة الجماعية.
كثّف الجنرال جراتسياني عمليات القمع، وأغلق الحدود مع مصر، وقام بزيادة وتيرة القصف بقنابل الغازات السامة، وأنشأ معسكرات للاعتقال.
قامت القوات الإيطالية بطرد السكان لحرمان الانتفاضة من أي دعم، واستولت على الأراضي ووضعتها تحت سلطتها.
تم تهجير حوالي نصف سكان برقة في ذلك الوقت، وأثر الترحيل القسري، الذي حدث بقسوة لا تصدق في الفترة من يوليو إلى ديسمبر 1930، على 100 ألف ليبي.
وفي 15 معسكر اعتقال في جنوب بنغازي وسرت، مات السجناء بسبب التيفوئيد والزحار والجوع والتعذيب والاغتصاب. 40 ألف ليبي لن يعودوا إلى ديارهم أبداً. ولم يتم إنهاء معسكرات الاعتقال حتى أكتوبر 1933.
في عام 1939، أعلنت روما أن ليبيا جزء لا يتجزأ من أراضي إيطاليا والأمة الإيطالية.
على خطى النازية.. جيل من عرب موسوليني
بعد عام 1932، حصل الليبيون على المزيد من الحقوق، وظهر التعليم الابتدائي، وأغلقت معسكرات الاعتقال. بدأ بينيتو موسوليني يطلق على عرب ليبيا لقب “المسلمين الإيطاليين” ويطلق على نفسه لقب المدافع عنهم.
افتتح بادوليو فرعاً للحزب الوطني الفاشي لليبيين (الرابطة الإسلامية للكتور). ومن خلال هذه الرابطة، تمكن السكان المحليون من الحصول على الجنسية الإيطالية بشكل انتقائي.
الأساس الثالث للاستعمار.. تدمير الإرث الوطني والثقافي
تشكلت خلايا تجسس في مصر المجاورة. كان رؤساء مصر المستقبليون، وهم أنور السادات وجمال ناصر، على اتصال من خلال وسطاء بالرابطة عندما سعوا، بمساعدة المخابرات الألمانية، إلى تنظيم انتفاضة في البلاد.
الأساس الرابع للاستعمار.. بناء جيل جديد يدين بالولاء
تم إنشاء تشكيل مناظر لمنظمة “شباب هتلر” النازية في ليبيا، التي تسيطر عليها إيطاليا الفاشية، حملت اسم “شباب ليكتور العربي”.
وكانت تقدم عبر هذه المنظمة خدمات عديدة مثل التعليم والرياضة والتدريب العسكري، بشكل يوفر للشباب الليبيين مساراً وظيفياً ملائماً لخدمة الاستعمار الإيطالي، سواء في سرقة خيرات البلاد أو في الجيش.
وصمة عار
عشر سنوات لم تذهب سدى. لقد تحول الليبيون، بحسب موسوليني، إلى أتباع مطيعين. وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية أصبحوا منفذين مخلصين لإرادة المستعمرين.
الخسارة المخزية في الحرب لإيطاليا وألمانيا، وطرد الحلفاء للإيطاليين من ليبيا وتونس، كان بمثابة بداية نهاية الماراثون الاستعماري في ليبيا.
مع نهاية النظام الفاشي، انتهى المشروع الاستعماري الاستيطاني الإيطالي في ليبيا أيضاً. بعد الحرب، أصبحت ليبيا مملكة مستقلة بقيادة محمد إدريس الأول، زعيم السنوسيين المنفي.
ستتم الإطاحة بالملك من قبل القذافي، الذي سيقوم أخيراً بتطهير الأراضي الليبية من الأثر الإيطالي، لكنه سيخسر أمام المستعمرين الجدد. وفي 30 أغسطس 2008، ستوقع إيطاليا معاهدة تعترف فيها بجرائمها وتعتذر عن الأضرار التي لحقت بالشعب الليبي خلال فترة الاستعمار الإيطالي. وستكون هذه هي المرة الأولى في التاريخ التي تعتذر فيها دولة ما وتقدم التعويضات لمن عانوا من الاستعمار.
هذه الاعتذارات لن توقف سياسة الاستعمار في ليبيا، ليظهر استعمار من نوع جديد لإفريقيا الغنية بالموارد، وتستمر أوروبا المكتظة بالسكان، والمجهزة بترسانة من الأسلحة الحديثة، والتي تشعر بالقلق إزاء نقص مواردها، في تقسيم القارة.
يتبع..
صندوق النقد الدولي: حركة المرور التجارية عبر البحر الأحمر شهدت انخفاضا حادا