على شواطئ المتوسط، ومع صخب الأمواج ومحركات القوارب المتهالكة، يتكشف مشهد يفضح البنية الخفية للهجرة غير الشرعية، فما كان يُظن أنه نشاط لعصابات عابرة للحدود، يظهر كجزء من مؤسسات الدولة الليبية التي يفترض أن تحمي حدودها وتصون أرواح العابرين.
الأدلة التي كشفتها صحيفة الغارديان البريطانية من صور ومقاطع فيديو موثقة، تضع المسؤولية على عاتق عناصر يرتدون الزي الرسمي لحكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، وهم ينخرطون في تهريب البشر ورميهم في البحر، وهي لحظة تكثّف كل التناقضات،فالدولة تتحدث باسم السيادة والأمن، بينما تتحول أجهزتها إلى جزء من آلية منظمة للاتجار بالبشر.
التهريب بوجه رسمي
في المقاطع المصورة التي نُشرت، يظهر رجال يرتدون بزات عسكرية تحمل شارات الكتيبة 80 التابعة للواء 111، تحت قيادة نائب وزير الدفاع عبد السلام الزوبي، هؤلاء ليسوا ميليشيا هامشية تعمل في الظل، بل جزء من الجهاز العسكري الرسمي لحكومة عبد الحميد الدبيبة منتهية الولاية، واللاجئون الأكراد والعراقيون الذين جرى توثيق لحظة قذفهم إلى البحر لم يكونوا ضحايا لرحلة تهريب فاشلة فقط، بل كانوا شهودا على تواطؤ رسمي مفضوح، حيث تُدار تجارة البشر بعلم الدولة، وربما برعايتها.

هذا المشهد يعيد إلى الأذهان سيرة أحمد الدباشي، أحد أبرز المتورطين في تجارة البشر على الساحل الغربي الليبي، الذي كشفت التحقيقات الإيطالية أنه كان يغرق المهاجرين عمدا مقابل أموال تدفعها روما للحد من تدفقات الهجرة، والفارق أن الدباشي كان يُنظر إليه بوصفه زعيم ميليشيا خارجة عن السيطرة، بينما الزوبي مسؤول رسمي يجلس إلى طاولة التفاوض مع وزير الداخلية الإيطالي ويتلقى إشادة بـ”التعاون المثمر”.
مصراتة.. مسقط رأس رئيس الحكومة ومصانع قوارب الموت
تزامن الكشف البريطاني مع خبر آخر لا يقل خطورة وهو تفكيك شبكة في مدينة مصراتة، مسقط رأس رئيس الحكومة الدبيبة، كانت تدير ورشة لصناعة قوارب معدّة خصيصا لتهريب المهاجرين، وبعد أن داهمتها السلطات، وُجدت ستة قوارب جاهزة واثنا عشر قاربا تحت التصنيع، إضافة إلى عشرات المهاجرين البنغاليين الذين كانوا يُجهَّزون للرحلة، ما يوضح أن صناعة التهريب لم تعد نشاطا فرديا، بل مشروعا صناعيا متكاملا يعمل تحت نظر السلطات، وربما برعايتها.

وليس صدفة أن تتقاطع خطوط التهريب مع مسقط رأس رئيس الحكومة، ولا أن يتزامن تفكيك الورشة مع اجتماعات رفيعة المستوى بين طرابلس ومسؤولين أوروبيين حول ملف الهجرة، ما يشير إلى “اقتصاد سياسي للهجرة”، حيث تتحول المأساة الإنسانية إلى ورقة مساومة وأداة نفوذ سياسي.
الجثث على شواطئ.. الوجه العاري للمأساة
بينما تتفاوض طرابلس مع روما وبروكسل، تقذف أمواج المتوسط عشرات الجثث إلى الشواطئ، فالصيادون وفرق الهلال الأحمر انتشلوا جثامين سودانيين ومصريين من أطفال ونساء ورجال، وخلف هذه الصور المروعة قصة واحدة مرتبطة بقوارب مكتظة مصنوعة في ورش مصراتة أو زوارة أو صبراتة، يقودها مهربون مرتبطون بميليشيات أو أجهزة رسمية، تبحر ليلا من شواطئ الغرب، وتنتهي إما على سواحل لامبيدوزا أو في قاع البحر.

تؤكد الأمم المتحدة أن أكثر من 456 مهاجرا لقوا مصرعهم قبالة سواحل ليبيا منذ بداية العام، وأن 17 ألفا آخرين أُعيدوا قسراً إلى مراكز احتجاز تعج بالانتهاكات، وخلف كل رقم قصة عائلة مفقودة، وأم تبحث عن ابنها، أو أب يدفن طفله في أرض غريبة.
التواطؤ الإيطالي – الليبي
منذ عام 2017، حين وقّعت إيطاليا اتفاقا مع طرابلس يقضي بتمويل وتدريب وتجهيز خفر السواحل الليبي، كانت روما تعلم أنها تسلّم ملف الهجرة إلى ميليشيات لا رادع لها، ورغم التقارير الأممية والمنظمات الحقوقية التي وثّقت التعذيب والاستعباد الجنسي والابتزاز في مراكز الاحتجاز، استمرت الحكومات الإيطالية المتعاقبة في ضخ الأموال إلى طرابلس، تحت شعار “أمن طرابلس من أمن أوروبا”.

المفارقة أن الوزير الإيطالي الذي أشاد مؤخرا بالتعاون مع الزوبي، هو نفسه الذي تلقّت وزارته صورا وفيديوهات تكشف تورط قوات ليبية في رمي مهاجرين إلى البحر، وهنا تصبح السياسة الأوروبية شريكا في الجريمة، حيث يتم تجاهل الانتهاكات مقابل كبح تدفقات المهاجرين نحو لامبيدوزا وصقلية.
خفر السواحل.. ذراع الدولة أم ذراع المهربين؟
خفر السواحل الليبي الذي يُفترض أن يكون أداة لحماية الأرواح، صار الذراع الرسمية للتهريب والابتزاز، واتهمت منظمات إنقاذ أوروبية عناصره باستخدام الرصاص الحي ضد طواقم الإغاثة، وتهديد الطائرات التي تراقب المتوسط، وحتى اختطاف مهاجرين بعد إنقاذهم، وهذه الممارسات ليست حوادث فردية بل سياسة ممنهجة، تنطلق من قناعة راسخة في طرابلس أن المهاجرين ورقة ضغط على أوروبا وليست مسؤولية إنسانية.

تكشف هذه الوقائع أن حكومة الدبيبة تمارس لعبة مزدوجة؛ فأمام الأوروبيين تقدّم نفسها شريكا في “مكافحة الهجرة غير الشرعية”، بينما على الأرض تسمح لميليشياتها بصناعة وتهريب المهاجرين، لتتحول ليبيا إلى دولةتعذّب وتحتجز وتغرق، مقابل الأموال والاعتراف السياسي.
هذه اللعبة ليست جديدة حيث مارسها القذافي من قبل حين لوّح بورقة المهاجرين في مواجهة أوروبا، لكن الجديد أن المشهد صار وحشياً، حيث يتداخل الرسمي مع الميليشيات، وتتحول الدولة إلى جزء من شبكة التهريب نفسها.
بين البحر والسياسة
لا يتعلق الأمر فقط بفضيحة أخلاقية أو بانتهاكات حقوقية فادحة، بل بمنظومة كاملة تجعل من البحر المتوسط مقبرة مفتوحة، وعلى ضفافه، يبني السياسيون صفقات، ويكدّس المهربون الأرباح، وتطفو الجثث على الشواطئ، والمأساة ليست في صور الغرق وحدها، بل في إدراكنا أن هذه الأرواح تُدار كأوراق تفاوض بين حكومات، وأن الموت صار بندا في اتفاقيات أمنية.
إن الأدلة التي نشرتها الغارديان، وما تلاها من كشف ورش تصنيع القوارب في مصراتة، تؤكد أن الهجرة غير الشرعية لم تعد أزمة عابرة، بل صناعة عابرة للحدود، تديرها حكومات وتغذيها تناقضات المصالح الأوروبية – الليبية، السؤال هنا كم جثة أخرى يجب أن يقذفها البحر إلى شواطئ طبرق وطرابلس قبل أن يدرك العالم أن المتاجرة بالبشر جريمة دولة؟
بقلم: مازن بلال
انقاذ 130 مهاجرا قبالة السواحل الليبية
