في خطوة أثارت جدلا واسعا وُصفت بأنها غير مسبوقة، أعلنت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا توقيع اتفاق مع دولة قطر لتمويل مشروع “دعم الحوار السياسي وتعزيز المشاركة المدنية” في 17 نوفمبر 2025.
رغم أن البعثة قدّمت الاتفاق بوصفه مبادرة فنية لتعزيز المشاركة الليبية في العملية السياسية، إلا أن المشهد سرعان ما انقلب إلى أزمة سياسية حادة، بعدما اعتبرت حكومة بنغازي الاتفاق تجاوزا فاضحا للصلاحيات الأممية، واعتداء سافرا على السيادة الوطنية.
لم يكن اعتراض الحكومة في الشرق نابعا من رفض مبدأ التعاون الدولي، بل من قناعة راسخة بأن التمويل القطري لا يمكن فصله عن خلفياته السياسية، فبالنسبة لحكومة أسامة حماد، لا يمكن أن تكون قطر الحليف التقليدي لجماعة الإخوان المسلمين وداعم حكومة طرابلس، طرفا محايدا في نزاع يتهدد وحدة ليبيا واستقلال قرارها الوطني.
اتفاقية تثير الشكوك
تم توقيع الاتفاق في طرابلس بين السفير القطري خالد الدوسري والممثلة المقيمة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي صوفي كيمخدزه، وبحضور الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة هانا تيتيه، وبحسب البعثة، فإن التمويل يهدف إلى تنفيذ خارطة الطريق الأممية التي ترتكز على ثلاثة محاور؛ إعداد إطار انتخابي جديد، وتوحيد المؤسسات، وتنظيم حوار سياسي بمشاركة مدنية واسعة.

لكن في نظر بنغازي، لم يكن الأمر بهذه البساطة، فجاء الاتفاق دون أي تشاور مع الحكومة المكلفة من مجلس النواب، ودون إخطار رسمي لوزارة الخارجية، وهو ما يمثل في أعراف الدبلوماسية تجاوزا للسلطات الوطنية.
وفق هذه المعطيات جاء البيان الحاد الذي أصدره رئيس الحكومة أسامة حماد معلنا “إيقاف كافة أشكال التعامل والتنسيق مع البعثة الأممية إلى حين تراجعها عن الاتفاق واعتذارها الرسمي”، واصفا الخطوة بأنها “سلوك مريب يتنافى مع المعايير الدولية ويمسّ سيادة الدولة الليبية”.
رد فعل وطني حازم
ما قاله حماد لم يكن معزولا، بل وجدت كلماته صدى واسعا داخل المؤسسات الوطنية في الشرق، فأيد مجلس النواب موقف حكومته بالكامل، واعتبرت لجنة الدفاع والأمن القومي أن البعثة الأممية تجاوزت حدود تفويضها، وارتكبت خطأ جسيمًا يستوجب مراجعة وجودها في البلاد. ودعا النائب سعيد امغيب إلى جلسة طارئة لطرد البعثة من ليبيا فورا، محذرا من أن “التدخل الأجنبي بلغ حدا لا يمكن السكوت عنه”.

حتى خارج الأطر الحكومية، صدرت بيانات من تجمعات سياسية ومدنية ترفض الاتفاق، أبرزها بيان “تجمع الأحزاب الليبية”، الذي وصف التمويل القطري بأنه “سابقة خطيرة” تشكل مساسا بمبدأ الحياد الأممي، وانتهاكا صريحا للمادتين 100 و101 من ميثاق الأمم المتحدة اللتين تلزمان موظفي المنظمة بالاستقلال التام عن أي نفوذ خارجي.
قطر… الحليف القديم يعود بوجه جديد
منذ عام 2011، كانت قطر طرفا رئيسيا في النزاع الليبي، إذ دعمت المجموعات المسلحة في الغرب، ومولت إعلاما ومنظمات مرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين، وبعد أكثر من عقد، يبدو أنها تحاول العودة إلى المشهد من بوابة الأمم المتحدة.

تقدّم الدوحة تمويلها للبعثة الأممية على أنه “مساهمة في دعم الاستقرار والتنمية”، لكنها في الواقع تعيد توظيف أدواتها القديمة عبر قنوات أكثر نعومة عبر الدبلوماسية المالية، فبدلا من إرسال السلاح والمستشارين، تقدّم الأموال تحت شعار “تعزيز الحوار”، وهو ما يمنحها شرعية شكلية لكنها تتيح لها النفاذ إلى تفاصيل العملية السياسية وتوجيه مساراتها بما يخدم حلفاءها.

في المقابل، ترى حكومة بنغازي أن هذا التمويل ليس إلا غطاء سياسيا لاستمرار النفوذ القطري في طرابلس، خاصة وأن الاتفاق تم في العاصمة التي تسيطر عليها حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها برئاسة عبد الحميد الدبيبة التي ترتبط بعلاقات وثيقة بالدوحة.
الأمم المتحدة وفقدان الحياد
أزمة الاتفاق مع قطر كشفت خللا أعمق في أداء الأمم المتحدة داخل ليبيا، فالقبول بتمويل من دولة منحازة لطرف في النزاع لا يمكن تبريره باعتبارات لوجستية، فالبعثة التي جاءت لدعم الحوار بين الليبيين أصبحت اليوم طرفا في الجدل نفسه، بعدما اختارت التمويل القطري دون التشاور مع الحكومة الشرعية في الشرق.
ويشير قانونيون ليبيون إلى أن هذا السلوك يمثل خرقا للمعايير المالية للأمم المتحدة، التي تشترط أن تكون مصادر التمويل شفافة ومعلنة وبعيدة عن تضارب المصالح، بل إن بعضهم يرى أن البعثة وقعت في “تضارب أخلاقي” حين قبلت مالاً من دولة تتبنى مواقف سياسية واضحة داخل الملف الليبي.
ولم يكن بيان الحكومة مجرد احتجاج دبلوماسي، بل إعلان صريح لفقدان الثقة في البعثة. فقد حمّل حماد الأمم المتحدة مسؤولية “تقويض العملية السياسية وإضاعة الفرص لتحقيق مسار وطني حقيقي”، مؤكدا أن أي حوار أو خارطة طريق لن تكون شرعية إذا لم تكن خالصة من الداخل.
بين سيادة الدولة وازدواج السلطة
تعكس الأزمة الراهنة هشاشة الوضع الليبي، حيث تتنازع حكومتان على الشرعية؛ حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، وحكومة مجلس النواب في بنغازي، غير أن البعثة الأممية، بتوقيعها الاتفاق في طرابلس، اختارت بوضوح الاصطفاف إلى جانب حكومة الغرب، متجاهلة الواقع القانوني والسياسي الذي يجعل من حكومة الشرق شريكا لا يمكن تجاوزه.
في هذا السياق، يبدو أن ما أغضب بنغازي ليس فقط التمويل القطري، بل تجاهل الأمم المتحدة لمبدأ الحياد والتمثيل المتوازن، فاعتبرت الحكومة أن البعثة تجاوزت التفويض الممنوح لها من مجلس الأمن، وتحولت إلى طرف سياسي يسعى إلى فرض مسارات معدّة مسبقا “من وراء الحدود”.
التمويل كأداة نفوذ إقليمي
لا يمكن فصل الأزمة عن التنافس الإقليمي المتصاعد بين قطر من جهة، ومصر والإمارات من جهة أخرى، فطرابلس تمثل بالنسبة للدوحة نافذة استراتيجية في شمال إفريقيا، فيما تعتبرها القاهرة وأبوظبي بوابة أمنية وحدودا لمجالهما الحيوي، التمويل القطري للبعثة لا يُقرأ إلا في ضوء هذا التنافس، حيث تسعى قطر إلى ترسيخ نفوذها عبر مؤسسات الأمم المتحدة نفسها.
السؤال الأهم هل ما زالت الأمم المتحدة تمتلك قرارها الحرّ في ليبيا، أم أنها باتت رهينة لمصادر تمويلها؟ حكومة بنغازي تجيب بوضوح إن البعثة فقدت استقلالها، وإن القبول بأموال دولة منحازة لا يمكن تفسيره إلا كخضوعٍ سياسي.
تداعيات داخلية وخارجية
قرار حكومة الشرق بقطع العلاقات مع البعثة يفتح الباب أمام فراغ دبلوماسي جديد، لكنه من ناحية أخرى يؤكد تمسكها بمبدأ السيادة الوطنية، وهذا الموقف الصارم أكسبها تأييدا شعبيا واسعا في الشرق الليبي، حيث يُنظر إلى الأمم المتحدة على أنها سبب في إطالة أمد الأزمة بدل حلها.
في المقابل، تواجه البعثة الأممية أزمة شرعية متزايدة، إذ فقدت الثقة في أحد أهم أطراف المعادلة السياسية. ومع غياب أي مبادرة لتصحيح المسار أو تقديم اعتذار رسمي تحمل احتمال إدخال خارطة الطريق الأممية في مرحلة موت سريري، ما يعيد الملف الليبي إلى المربع الأول.
حين يُستخدم المال لتقييد السيادة
ما جرى بين قطر والأمم المتحدة في ليبيا ليس تفصيلا إداريا، بل محطة كاشفة لطبيعة الصراع بين السيادة الوطنية والنفوذ الخارجي، فالدعم المالي، حين يأتي من طرف له مصلحة سياسية، يتحول إلى أداة تأثير تفرغ العمل الأممي من مضمونه.
في نظر حكومة بنغازي، لم يعد السؤال من يمول الحوار السياسي، بل من يملك قراره، فحين تُقبل الأمم المتحدة بتمويل من دولةٍ منحازة لطرفٍ داخلي، فإنها تفقد صفتها كوسيط، وتتحول إلى شريك في إدارة التوازنات، أما قطر فقد أثبتت أن نفوذها الإقليمي لا يحتاج إلى جيوش ولا قواعد، بل إلى شيك يحمل توقيعها ويُودَع في حساب الأمم المتحدة.
وبذلك يتحول التمويل من وسيلة دعم إلى وسيلة هيمنة، ومن أداة استقرار إلى مدخل لتدويل القرار الوطني، وفي خضم هذا المشهد، لا تزال ليبيا تبحث عن سلام لا يُشترى بالمال، بل يُبنى بإرادة أبنائها وحدهم.
بقلم: مازن بلال
أسامة المصري نجيم: اختبار العدالة في ليبيا بين إرث الانتهاكات وضغوط السياسة
