05 ديسمبر 2025

لم تكن الزيارة الأخيرة التي قام بها رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية المنتهية ولايتها، عبد الحميد الدبيبة، إلى العاصمة البريطانية لندن، مجرد تحرك دبلوماسي عابر، فجاءت الزيارة دون دعوة رسمية أو جدول لقاءات معلن، ما أثار تساؤلات حول أهدافها ودوافعها الخفية.

المعطيات المتقاطعة تشير إلى أن تلك الرحلة جاءت في سياق التدخل لإنقاذ أحد أقارب الدبيبة الملاحق قضائياً في بريطانيا بتهم تتعلق بالمخدرات والأسلحة، ما يكشف بوضوح كيف باتت المصالح العائلية تتقدم على حساب المصلحة الوطنية، وكيف تُستَخدم أدوات الدولة الليبية لتصفية ملفات شخصية، في مشهد يعكس هشاشة السيادة وتداخل المال بالسلطة في أعلى هرم الحكم.

وتكتسب هذه الزيارة بعداً أكثر خطورة عندما تُقرأ في سياق شبكة الفساد المتشعبة التي تديرها عائلة الدبيبة داخل ليبيا، خصوصاً هيمنتها على قطاع الاتصالات الحيوي وتحويله إلى مصدر تمويل خاص يدرّ مليارات الدنانير، فالمسألة لا تقف عند حدود “رحلة عائلية مشبوهة”، بل تتصل بـمنظومة نفوذ اقتصادية وسياسية استطاعت اختراق مفاصل الدولة، من الاقتصاد إلى القضاء، لتتحول ليبيا عملياً إلى دولة تدار بمنطق الصفقة لا بمبدأ القانون.

زيارة سرية.. ومهزلة دبلوماسية

جاءت زيارة الدبيبة إلى لندن في منتصف أكتوبر 2025، وحسب منصة “ذا جيوبوليتيكال ديسكالبريطانية لم يكن مرحّب به رسمياً من قبل السلطات البريطانية، ولم يحظَ بأي استقبال من رئيس الوزراء كير ستارمر أو وزير الخارجية، وهو مؤشر واضح على الفتور السياسي تجاه الدبيبة، وتراجع مكانته في دوائر القرار الغربية.

ورغم محاولة الدبيبة عقد اجتماعات على هامش الزيارة مع شخصيات سياسية بريطانية، مثل اللورد فالكونر ومستشار الأمن القومي جوناثان باور، فإن اللقاءات اقتصرت على تحذيرات باردة من أي تصعيد عسكري في طرابلس، في وقت كان فيه رئيس الحكومة الليبية يلمّح إلى رغبته في “فرض السيطرة الكاملة على العاصمة”.

بدت الزيارة في ظاهرها فاشلة، لكن في الكواليس تتحدث المصادر أن الملف الحقيقي الذي حمله الدبيبة إلى لندن لم يكن سياسياً، بل قضائياً وعائلياً، يتعلق بقريب له موقوف في بريطانيا على خلفية قضايا جنائية حساسة، ويُعتقد أن مساعي الإفراج عنه تمّت عبر قنوات مالية وشركات واجهة مملوكة لعائلة الدبيبة.

هيمنة الاتصالات: حين تتحوّل البنية التحتية إلى خزنة عائلية

في موازاة هذا المشهد، تتصاعد الاتهامات في الداخل الليبي حول استحواذ عائلة الدبيبة على قطاع الاتصالات بالكامل وتحويله إلى مصدر تمويل موازٍ لسلطة غير شرعية.

وكشف الدبلوماسي السابق حسن الصغير عن أن شركات مثل “ليبيانا” و”المدار” و”هاتف ليبيا” لم تعد سوى واجهات تُدار من قبل شبكة مالية وإدارية مرتبطة مباشرة بالدبيبة وأبناء عمومته.

وأخطر ما في هذه الاتهامات هو أن التراخيص الرسمية لم تُطرح في مناقصات عامة، بل مُنحت في الخفاء لشركات مشبوهة مثل “الشبكة الموحدة” التي يديرها شخص يدعى “الكلوش”، بتمويل من خزينة الدولة بلغ نحو نصف مليار يورو.

ومع الوقت، أصبحت الشركة الجديدة وسيطاً إجبارياً بين الشركات الوطنية ومورّدي الخدمات الدولية، مما ضمن لعائلة الدبيبة هيمنة مالية مطلقة على أحد أكثر القطاعات حيوية في الاقتصاد الليبي.

وبحسب تقديرات موثوقة، فإن حجم الأموال التي تدفقت لصالح هذه المنظومة تجاوز سبع مليارات دينار ليبي، تم تمريرها “في ظلام الليل” كما وصف الصغير، عبر تراخيص سرية ومناقصات مزيفة.

من الاتصالات إلى القضاء: الفساد شبكة لا مؤسسة

القضية لا تتوقف عند المال، بل تمتد إلى السلطة القضائية الليبية نفسها، التي هزّتها مؤخراً فضيحة فساد غير مسبوقة، حين وُجهت اتهامات مباشرة إلى النائب العام الصديق الصور بالتواطؤ مع آل الدبيبة في ملفات حساسة.

الصحافي الليبي خليل الحاسي نشر وثائق تفيد بأن مكتب النائب العام ألغى النشرة الحمراء الصادرة بحق علي الدبيبة، ابن عم رئيس الحكومة، كما ألغى إنابة قضائية طلبها النائب العام السابق للتحقيق معه ومع نجله إبراهيم في بريطانيا.

هذه القرارات لم تكن مجرد أخطاء إجرائية؛ بل حملت إشارات واضحة إلى تغلغل نفوذ عائلة الدبيبة داخل المؤسسة القضائية، في وقت تحاول فيه الأخيرة الحفاظ على ما تبقى من هيبتها وسط دعوات متكررة لفتح تحقيق شفاف ومستقل.

لكن، إذا صحت المزاعم بأن أحد أقارب الدبيبة موقوف في بريطانيا بتهم تتعلق بالمخدرات والأسلحة، فإن الضغط القضائي البريطاني والليبي معاً شكّلا محور الصفقة السرية التي تزامنت مع زيارة لندن الأخيرة، والسؤال هنا هل اشترت طرابلس صمت لندن؟ أم اشترت لندن صفقات طرابلس؟

شبكة التجسس والابتزاز: التكنولوجيا كسلاح سياسي

يتقاطع هذا كله مع ما كشفه الناشط الحقوقي حسام القماطي حول أكبر شبكة تجسس داخل ليبيا، تعمل تحت إشراف مباشر من وليد اللافي، وزير الدولة لشؤون الاتصال في حكومة الدبيبة.

تشمل الشبكة شخصيات نافذة مثل محمد بن عياد، رئيس مجلس إدارة الشركة الليبية للبريد والاتصالات، وطه اللافي مدير شركة روافد، ومعاذ الغدامسي، مدير شركة الابتكار، وهذه الشركات الثلاث تمكّنت من احتكار مشاريع البنية التحتية للشبكات في البلاد، ومن الوصول إلى منظومة السجل المدني، بل وحتى منظومات المصارف التجارية والدولار، ما يعني أن مجموعة صغيرة باتت تمتلك القدرة على التنصت، والمراقبة، والتحكم في تدفق المعلومات والأموال داخل ليبيا.

وبحسب تقارير، فإن 6% من دخل قطاع الاتصالات يذهب مباشرة إلى حسابات مرتبطة بعائلة الدبيبة، فيما يشبه “ضريبة فساد رسمية” تُفرض على المواطنين دون علمهم.

الصفقة الغامضة: لندن مقابل السيطرة على الاتصالات

عند جمع خيوط هذه القضايا، تظهر لوحة متكاملة:

  • زيارة غامضة إلى لندن لم تُستقبل رسمياً.
  • قريب من العائلة مهدد بالسجن في بريطانيا.
  • شبكة مالية تسيطر على الاتصالات وتدر مليارات بلا رقابة.
  • ونظام قضائي محلي متواطئ أو خاضع للابتزاز.

إنّ احتمال وجود صفقة بريطانية-ليبية غير معلنة يصبح هنا أكثر من مجرد فرضية، فبريطانيا، التي تراقب عن كثب حركة الأموال الليبية في مصارفها، تعرف جيداً أن أيّ تجميد أو ملاحقة قانونية ضدّ أحد أفراد آل الدبيبة سيُفجّر سلسلة فضائح مصرفية تطال شخصيات بريطانية نافذة استفادت من الاستثمارات الليبية خلال السنوات الماضية.

وبالمقابل، فإن الدبيبة بحاجة إلى غطاء دولي يسمح له بالبقاء في المشهد، خصوصاً بعد أن تقلصت شرعيته داخلياً، وتزايدت الدعوات لتشكيل حكومة موحدة جديدة وفق خريطة الطريق الأممية، بهذا المعنى فإن “زيارة لندن” مبادلة ضمنية: حرية أحد الأقارب مقابل استمرار تدفق العقود والامتيازات الاقتصادية.

ليبيا في قبضة العائلة

منذ توليه رئاسة الحكومة عام 2021، بنى عبد الحميد الدبيبة سلطته على تحالف معقد من المال، والميليشيات، والمصالح الاقتصادية، لكنه في الأعوام الأخيرة حوّل هذا التحالف إلى نظام عائلي متكامل يسيطر على مفاصل الاقتصاد والإدارة.

إنّ السيطرة على قطاع الاتصالات، والاختراق القضائي، والتلاعب السياسي بالعلاقات الخارجية، ليست سوى وجوه متعددة لفساد واحد، يقوم على مبدأ أن الدولة مجرد غطاء لعائلة متنفذة، وأن السيادة تُشترى وتُباع وفق المصالح.

أما الثمن الحقيقي فهو ما يدفعه المواطن الليبي يومياً من انقطاع الخدمات، وتآكل المؤسسات، وانهيار الثقة في أي سلطة يمكن أن تمثل الشعب لا العائلة.

وحتى تُفتح هذه الملفات بجدية أمام تحقيقات شفافة، ستظلّ لندن وطرابلس وجهتين مختلفتين في الجغرافيا، لكن متصلتين في المال والفساد والسكوت المتبادل.

بقلم: نضال الخضري

الحكومة الليبية المؤقتة تؤكد على ضرورة تطوير حقل الحمادة النفطي

اقرأ المزيد