وجدت الدبلوماسية الليبية نفسها أمام أزمة جديدة عنوانها الفضيحة التي تورط فيها صلاح الشركسي، القائم بالأعمال في السفارة الليبية بالرباط، بعدما أعلنت وزارة الخارجية المغربية اعتباره “شخصاً غير مرغوب فيه” إثر اتهامات بالتحرش بموظفة محلية داخل مبنى البعثة.
تأتي هذه الحادثة في وقت تحاول فيه ليبيا إعادة بناء صورتها على الساحة الدولية بعد أكثر من عقد من الفوضى والصراع، الأمر الذي يجعل من هذه الفضيحة تحدياً مضاعفاً لصورة الدولة ومصداقية بعثاتها في الخارج.
هذه الحادثة ليست مجرد زلة فردية، بل تكشف عن خلل أعمق في منظومة العمل الدبلوماسي الليبي، الذي يلتهم مليارات الدولارات سنوياً من ميزانية دولة مأزومة اقتصادياً وأمنياً، دون أن يقدم عائداً يتناسب مع حجم التكاليف.
فضيحة على أرض المغرب
ظهرت القضية عبر النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، وأبرزهم حسام القماطي، وتتلخص وقائعها بأن السلطات المغربية أجرت تحقيقاً داخليا أثبت تورط الشركسي في سلوك غير لائق بحق موظفة مغربية تعمل داخل مقر السفارة الليبية، ووفق الأعراف الدبلوماسية، لم يكن أمام الرباط سوى خيار إعلان الدبلوماسي الليبي”persona non grata، أي شخص غير مرغوب فيه، وإلزامه بمغادرة البلاد.

ورغم عدم وجود أي تصريح أو وثيقة رسمية مغربية تؤكد هذه الواقعة، حيث بقيت ضمن الروايات التي يتم تناولها على وسائل التواصل وتخضع لجدل واسع حول موثوقيتها، لكنها في المقابل تضع صورة قاتمة للواقع الدبلوماسي، وإذا صحت الرواية كما تناقلها النشطاء فإن خطورتها تكمن:
- أنها وقعت في بلد يُعرف بدقة بروتوكولاته الدبلوماسية وحساسيته تجاه قضايا الكرامة الإنسانية وحقوق العاملين.
- أن بطلها ليس دبلوماسيا ًشاباً قليل الخبرة، بل ضابط مخابرات سابق برتبة عميد، سبق طرده من المجر (2018) وناميبيا (2020) على خلفيات لم يُكشف عنها رسمياً، قبل أن يُعاد تدويره داخل وزارة الخارجية الليبية ليتسلم حقيبة بالغة الحساسية في الرباط.

- أنها تأتي في توقيت يشهد فيه المغرب انفتاحاً إقليمياً ودولياً متصاعدا،ً مقابل صورة ليبية غارقة في فضائح الفساد والخلل الإداري.
ما وراء السلوك الفردي: أزمة الاختيار والتعيين
القضية كما قدمها “المؤثرون” الليبيون على وسائل التواصل الاجتماعي لا تقف عند حدود سلوك غير أخلاقي لدبلوماسي بعينه، بل تفتح الباب على أسئلة أوسع عن كيفية يتم اختيار ممثلي ليبيا في الخارج؟
منذ سنوات، تتواتر تقارير ديوان المحاسبة والرقابة الإدارية حول فساد التعيينات في وزارة الخارجية الليبية، حيث تُمنح المناصب غالباً عبر الولاءات السياسية والقرابة العائلية والانتماءات الجهوية، أكثر من الكفاءة أو الخبرة.
هذا الواقع أنتج شبكة مترهلة تضم أكثر من140 بعثة دبلوماسية، بكلفة تفوق 3مليارات دينار ليبي سنوياً (حوالي 600 مليون دولار)، رغم أن أغلب هذه البعثات لا تخدم مصالح حقيقية، ولا ترتبط بجاليات كبيرة.
الشركسي نفسه يمثل نموذجاً لهذه الأزمة فهو ضابط أمني سابق، استُخدم في ملفات حساسة، ثم زُج به في الحقل الدبلوماسي رغم سجله المثير للجدل، مثل هذه القرارات لا تُعبر عن سياسة خارجية عقلانية، بل عن ممارسات “توزيع غنائم” بين النخب الحاكمة.
المقارنة الصادمة: واشنطن تغلق سفارات.. وطرابلس تفتح أخرى
في أبريل 2025، نشرت شبكة CNN وثيقة لوزارة الخارجية الأمريكية تكشف عزم إدارة دونالد ترامب على إغلاق نحو 30 سفارة وقنصلية لتقليل النفقات وتعزيز الكفاءة، والخطوة بدت مفاجئة لأن واشنطن تملك أكبر شبكة دبلوماسية في العالم وتتمتع بأقوى اقتصاد عالمي، لكنها رغم ذلك لم تتردد في إعادة هيكلة تمثيلها الخارجي.

في المقابل، تواصل ليبيا، الدولة الممزقة باقتصاد هش وديون متراكمة، الإنفاق ببذخ على بعثاتها، حتى بلغت مصروفات سفارة أنقرة وحدها أكثر من 318مليون دينار في عام 2024، فيما استهلكت سفارة تونس143 مليوناً، وسط فساد إداري ومالي موثق بقرارات من النائب العام وديوان المحاسبة.
المفارقة صارخة تظهر في أن دولة عظمى تقلص وجودها الدبلوماسي لتقليل الهدر، فيما تنفق ليبيا على سفاراتها كأنها إمبراطورية مستقرة غنية.
من فضائح الفساد إلى الفضيحة الأخلاقية
المشهد الدبلوماسي الليبي لم يكن يوماً بعيداً عن الفضائح، فخلال عام 2024 وحدهأُودع القائم بالأعمال في الأرجنتين السجن بتهمة إساءة استعمال الوظيفة، وحُبست رئيسة بعثة ليبيا في بلجيكا بسبب تحقيق منافع مادية غير مشروعة، وأُوقف المراقب المالي في كازاخستان بتهمة الاستيلاء على المال العام، وصدرت أوامر بحبس ثلاثة سفراء سابقين لدى أوكرانيا وعدد من الملحقين بتهم التزوير واستغلال المنصب.
لكن فضيحة صلاح الشركسي في المغرب التي أثارها نشطاء منصات التواصل ليست مالية بل أخلاقية، وفيما أكدت مصادر مغربية صحة القرار، سعت السفارة الليبية في الرباط إلى نفي الخبر عبر صفحتها على “فيسبوك”، واعتبرته “حملة ممنهجة تستهدف حكومة الوحدة الوطنية”.
عبّر ليبيون على وسائل التواصل الاجتماعي، عن غضبهم من هذه الممارسات، معتبرين أنها “إهانة لليبيا قبل أن تكون فضيحة شخصية”، وذهب آخرون إلى المطالبة بإعادة هيكلة وزارة الخارجية برمتها، ووقف التعيينات العشوائية التي تحوّل السفارات إلى ملاذ للمحسوبية لا إلى واجهات دبلوماسية.
ما بين الشرعية والمشروعية: أزمة الثقة
المعضلة الأكبر أن هذه الفضيحة جاءت لتُضاف إلى سلسلة أزمات تفاقم أزمة الشرعية السياسية لحكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية، فالدبيبةالذي برّر سابقاً الإنفاق الضخم على البعثات الدبلوماسية بقوله إنه “لا يؤثر على ارتفاع أو انخفاض الدولار”، يجد نفسه اليوم أمام وقائع تفضح هشاشة هذه المبررات.
حين يُطرد دبلوماسي ليبي للمرة الثالثة من بلد مضيف بسبب تجاوزات، يصبح من الصعب الحديث عن “مشروعية” الاستمرار في نفس النهج، فالمسألة لم تعد مرتبطة فقط بالفساد المالي، بل باتت تمس القيم والسلوكيات التي يفترض أن يجسدها الدبلوماسيون في الخارج.

فضيحة صلاح الشركسي في المغرب رغم عدم تأكيدها بشكل رسمي بسبب حساسيتها ليست حادثة عابرة، بل مرآة تعكس عمق الأزمة الدبلوماسية الليبية، فبين فساد مالي موثق، وتعيينات مشبوهة، وفضائح أخلاقية، تبدو صورة ليبيا في الخارج أبعد ما تكون عن بلد يسعى لاستعادة دوره الإقليمي.
بقلم: نضال الخضري
تقرير أممي يكشف تزايد نفوذ الجماعات المسلحة في ليبيا

