تعيش ليبيا حالة فوضى وصراع منذ الإطاحة بـالرئيس معمر القذافي عام 2011، وترك الفراغ بعد سقوطه حالة اضطراب وصعوبات اقتصادية، ما زاد من الحنين للماضي ودعما لـ”سيف الإسلام القذافي”.
هذا التحول في الرأي العام ليس بالضرورة تأييدا مباشرا لشخص سيف الإسلام، بل هو استجابة لحالة عدم الاستقرار والفقر الطويلة التي تؤثر على البلاد، وللمواجهات المستمرة على الأخص في الغرب الليبي، إضافة لحالة الانقسام السياسي التي أدت لحالة يأس من أي تحول باتجاه الاستقرار.
فما حدث في ليبيا نقلها نحو تناقضات المصالح الغربية التي منعت عمليا ظهور بيئة سياسية يمكنها أن تخلق تنافسا لتحقيق مصالح المجتمع، وجعلها مساحة لنشاطات المجموعات المسلحة التي أوجدت نخباً سياسية مدعومة غربيا بشبكة متكاملة داخل البلاد.
المشهد الليبي: أمة في حالة اضطراب
تميزت مرحلة ما بعد القذافي بانهيار الأفق السياسي لصالح تنافس الفصائل المختلفة للسيطرة، وانقسمت ليبيا إلى حكومة الوحدة الوطنية المعترف بها دوليا والمدعومة أمريكيا وأوروبيا في الغرب، والقوات المسلحة الليبية بقيادة خليفة حفتر في الشرق الذي استطاع إنهاء الميليشيات المتطرفة وأمن حالة استقرار واضحة.
وأدى هذا الانقسام رغم كافة المبادرات الدولية إلى واقع من عدم الاستقرار وتدهورا في الوضع الاقتصادي، مع انهيار الخدمات الأساسية، مثل الرعاية الصحية والتعليم، ومواجهة الليبيين لأوضاع اقتصادية صعبة تشمل البطالة والتضخم.
عمليا، فإن معدلات البطالة في ليبيا ارتفعت خلال السنوات من 2011 إلى 2023، حيث كانت حوالي 19.5% في 2011 ووصلت إلى ذروتها في السنوات اللاحقة، قبل أن تبدأ في الانخفاض التدريجي، ومع التأزم الحالي الذي يشهد إغلاقا لحقول النفط وخلافات بشأن مصرف ليبيا المركزي فإن هذه المعدلات مؤهلة للازدياد.
أما معدلات الفقر فشهدت ارتفاعا ملحوظا بعد الثورة، ما يعكس تأثير التدهور الاقتصادي على الظروف المعيشية للسكان، وسجلت معدلات التضخم ارتفاعا كبيرا أيضا ما أدى إلى زيادة تكاليف المعيشة.
وحمل هذا الواقع حالة إحباط عام دفعت العديد من الليبيين للشعور بأن وعود ثورة 2011 بالحرية والديمقراطية والازدهار ذهبت أدراج الرياح، فهم يواجهون حالة من عدم الاستقرار والفقر، ما أدى إلى رغبة في الاستقرار والنظام الذي كان سائدا خلال عهد القذافي، هذا الحنين خلق أرضية خصبة لعودة سيف الإسلام القذافي إلى الساحة السياسية.
سيف الإسلام القذافي: شخصية الحنين والأمل
في نوفمبر 2011، تم اعتقال سيف الإسلام من قبل جماعة مسلحة في مدينة الزنتان، جنوب غرب طرابلس، وظل محتجزا هناك لعدة سنوات إلى أن حكم عليه بالإعدام في عام 2015 من قبل محكمة ليبية بعد محاكمة سريعة، ولكن لم يتم تنفيذ الحكم.
وفي يونيو 2017 أعلنت “كتيبة أبوبكر الصديق” الليبية إطلاق سراحه، حيث غادر مدينة الزنتان، لكن مشاكله القانونية كانت أعمق بكثير، فهو بقي مطلوبا من قبل المحكمة الجنائية بتهم تتعلق حسب زعمهم بجرائم ارتكبت خلال الانتفاضة الليبية عام 2011، وهذا الوضع القانوني يعقد من أي محاولات له للعودة إلى الحياة السياسية بشكل رسمي.
لكن سيف الإسلام القذافي فاجئ الجميع في عام 2021 وأعلن نيته الترشح للانتخابات الرئاسية الليبية، فرغم أنه يحظى بدعم بعض القبائل والفصائل لكنه يواجه معارضة شديدة من أطراف أخرى تعتبر عودته تهديدا للاستقرار، كما أن عودته إلى الساحة السياسية ليست محل إجماع دولي، إذ أن العديد من الدول تراقب الوضع بحذر بسبب ماضيه القانوني والسياسي، إلا أنه ورغم كافة المسائل القانونية يظل شخصية محورية في النقاشات السياسية الليبية.
وخلال حكم والده كان يُعتبر مصلحا، ويقدم نفسه اليوم كزعيم محتمل يمكنه اعادة الاستقرار إلى الأمة، حيث يلقى اسم وإرث والده صدى لدى العديد من الليبيين الذين يربطون بين عهد القذافي والنظام والبرامج الاجتماعية والاستقرار الاقتصادي.
اللافت أن شعبية سيف الإسلام تتجاوز الانقسامات الإقليمية، فهو يتمتع بدعم كبير في كل من شرق وغرب ليبيا، ولا ينبع هذا الدعم الواسع من جاذبيته الشخصية أو مهاراته السياسية، بل في ما يمثله من رمز للعودة إلى زمن أكثر استقرارا وازدهارا.
الحنين لعهد القذافي: انعكاس لليأس الحالي
الحنين المتزايد لعهد القذافي ليس مجرد انعكاس للماضي، بل هو رد فعل على الحاضر، فالليبيون الذين يواجهون الصعوبات المستمرة، ينظرون إلى الوراء بحنين الى حقبة الرئيس معمر القذافي، حيث شهدت ليبيا نموا اقتصاديا بفضل ثروتها النفطية،وقدمت الحكومة التعليم والرعاية الصحية المجانية، والإعانات للسلع الأساسية، وحتى برامج الإسكان، ويتذكر البعض هذه البرامج الاجتماعية باعتزاز وهم يكافحون الآن لتأمين لقمة العيش.
ويتفاقم هذا الحنين بسبب خيبة الأمل من النخب السياسية الحالية، حيث يتم النظر إليهم على أنهم فاسدون وغير قادرين على معالجة تحديات البلاد،وكلما طالت فترة الفوضى وفقدان السلطة، زادت هذه الرغبة في العودة إلى عهد القذافي، ما يخلق أرضية خصبة لرسالة سيف الإسلام السياسية.
عمليا، فإن شعبية سيف الإسلام ليست مرتبطة بشخصيته بقدر ما هي مرتبطة بالتمثيل الرمزي الذي يقدمه، فجاذبيته متجذرة في الذاكرة الجماعية لليبيا خلال مراحل الاستقرار.
وبالنسبة للعديد من الليبيين يمثل سيف الإسلام العودة إلى زمن كانت فيه الدولة تعمل بفعالية، وكانت الاحتياجات الأساسية متوفرة، وهذه القوة الرمزية هي رصيد كبير في بلد يشعر الكثيرون فيه بأنهم متروكون من قبل قادتهم الحاليين.
في المقابل تم صياغة موقف سيف الإسلام السياسي بعناية لاستقطاب طيف واسع من الليبيين، فقدم نفسه كشخصية توحيدية، قادرة على سد الفجوات بين الشرق والغرب، وبين من يدعمون حكومة الوحدة الوطنية ومن يدعمون القوات المسلحة الليبية، ودعواته للمصالحة الوطنية والعودة إلى الوضع الطبيعي تلقى صدى لدى شعب متعب من النزاع.
الفجوة العسكرية: تحدي سيف الإسلام
يواجه سيف الإسلام رغم شعبيته المتزايدة تحديات خاصة في مجال الدعم العسكري، فهو يفتقر إلى قوة عسكرية، وهذا النقص في الدعم العسكري يحد من قدرته على ممارسة النفوذ ويجعله عرضة للخطر في بلد غالبا ما ينبع فيه النفوذ من قوة السلاح.
ولكي ينجح سياسيا، يحتاج إلى التنقل في مشهد معقد، ويبني تحالفات مع القادة العسكريين والقبليين الرئيسيين مع الحفاظ على جاذبيته كقائد مدني، ستكون قدرته على موازنة هذه الديناميكيات أمرا حاسما في تحويل دعمه الشعبي إلى قوة سياسية ملموسة.
إن استمرار مواجهة ليبيا لحالة عدم الاستقرار والصعوبات الاقتصادية تزيد من جاذبية سيف الإسلام القذافي، وشعبيته هي شهادة على الاستياء العميق الذي يشعر به العديد من الليبيين تجاه الوضع الحالي، وشوقهم للعودة إلى الاستقرار والازدهار، بينما يشكل افتقاره للدعم العسكري تحديا كبيرا، لكن جاذبيته الواسعة والحنين لعهد القذافي يوفران له منصة قوية.
وتبقى قدرة سيف في استخدام هذا الدعم للوصول إلى دور قيادي مجال شكوك نظرا لوضعه القانوني دوليا على الأقل، لكن صعوده مؤشر واضح على أن الماضي في ليبيا لا يزال يشكل الحاضر، وأن ذكرى عهد القذافي تظل ظاهرة قوية في المشهد السياسي للبلاد.
بقلم مازن بلال
ليبيا.. إنقاذ 199 مهاجرا غير شرعي