22 نوفمبر 2024

يقدم المشهد الأمني المضطرب في الغرب الليبي صورة للمسار السياسي الهشالذي تحاول الولايات المتحدة الأميركية والقوى الغربية استثماره بحثاً عن توازنات تحافظ على المصالح الغربية وتدفع ليبيا ثمنها.

وتشهد طرابلس وريفها اشتباكات متكررة بين القوى المتناحرة، في وقت تستمر فيه العملية السياسية بالتعثر، وسط محاولات جديدة تقودها المبعوثة الأممية الجديدة إلى ليبيا، الأميركية ستيفاني خوري، إعادة إحيائها بشكل يتوافق مع التنافس الغربي المستجد على ليبيا.

الاشتباكات حتى ولو كانت محدودة في بعض الأحيان إلا أنها تظهر كاختبارات قوة للتأثير على المسرح الليبي عموما وليس فقط على منطقة أو مدينة محددة، فهي في النهاية توضح عناصر خاصة داخل التكوين السياسي الذي تتعامل معه حكومة عبد الحميد الدبيبة المنتهية ولايته، وتسعى لوضعه داخل المسار السياسي وصولا إلى الانتخابات.

عمليا فإن الاشتباكات تشتعل بشكل سريع ثم تتوقف دون أي أثر على مستوى توزع الفصائل المسلحة، أو حتى قدرة انتشار قوى الأمن الليبية لمنع هذه الاحتكاكات، فتحركات وزارة الداخلية في حكومة الوحدة الوطنية المقالة تظهر كمحاولة لفرض توازن بين الفصائل المسلحة وليست قوة ردع لإنهاء التواجد المسلح، ورغم التصريحات عن خطة شاملة تهدف لتطهير العاصمة طرابلس ومحيطها الغربي من المجموعات المسلحة، تطرح الاشتباكات المتكررة مسألة أساسية لا ترتبط فقط بقدرة حكومة الدبيبة على السيطرة على مناطق الاشتباكات، إنما في طبيعة “مراكز القوى” في طرابلس التي تمنع عملياً من تحقيق الاستقرار وفرض النظام وإنهاء الوجود المسلح.

التداخل الأمني

الاشتباكات الأخيرة في مدينة “الجميل” لا تنفصل عن سياق سياسي أوسع للمشكلة، فالمؤسسات الأمنية في طرابلس ليست بعيدة عن التشكيلات المسلحة المنتشرة، فهي جزء من تكوين أمني تختلط فيها الحسابات الخاصة لقادة الجهاز الأمني مع المجموعات المسلحة المنتشرة في المناطق المختلفة في الغرب الليبي، والمثال الأكثر وضوحاً حول هذا الأمر:الاشتباكات التي حدثت مؤخرا بين عناصر جهاز دعم الاستقرار، برئاسة غنيوة الككلي، وعناصر جهاز الشرطة القضائية، بالقرب من كوبري جندوبة بين مدينتي الأصابعة وغريان، التي اندلعت أساسا بعد محاولة عناصر دعم الاستقرار تهريب سجناء تابعين للواء 555 كان ينقلهم جهاز الشرطة القضائية من سجن جندوبة، إلى مجمع محاكم غريان .

يسود هذا الشكل من التنافس بين القادة الأمنيين الذين يعتمدون في الغالب على ولاءات محلية لبسط سيطرتهم وتحقيق تفوقيتجاوز العملية السياسية أو محاولات الوصول إلى انتخابات تنهي حالة الشتات القائمة، ما دفع عضو مجلس النواب،علي التكبالي، إلى التشكيك في تصريحات وزير الداخلية المكلف بحكومة الدبيبة منتهية الولاية عماد الطرابلسي، عن وجود 420 ألف منتسب في قطاع الأمن التابع لوزارته، معتبراً أن هذا الرقم مبالغ فيه بالنسبة لعدد السكان في ليبيا.

وهذا الرقم (420 ألف) في حال صحته، يفتح بدوره الباب أمام تساؤلات عديدة، إذ يبدو كبيراً جداً في بلد يبلغ عدد سكانه سبعة ملايين نسمه، توجد في شرقه حكومة أخرى، ما يعني أن بين كل عشرة أشخاص في الغرب الليبي يوجد شخص منتسب للأمن، فما سبب هذه الفوضى؟

ولا تعكس هذه التصريحات فشل الحكومة في تحقيق الاستقرار الأمنيفقط، بل أيضاً فشل قوى “الأمر الواقع” التي تفرض نفسها حتى على المؤسسات الأمنية الرسمية، فالاحتجاجات والعصيان المدني الذي يقوم به الأهالي على الأخص في الجميل والمنشية ورقدالين وزلطن، هي مظهر واحد فقط لليأس من الوضع الراهن، بينما تظهر المطالبة برحيل الميليشيات واستعادة الحياة الطبيعية، حالة مستحيلة في ظل التشابك بين مصالح “مراكز القوى” في حكومة الدبيبة وزعماء المجموعات المسلحة.

دور “افتراضي” لقوات الأمن

السؤال المحوري في ظل حالة الانفلات الأمني يتعلق بفاعلية قطاع الأمن التابع لوزارة الداخليةودورها في إعادة الظروف الأمنية المستتبة، فتوحيد الأجهزة الأمنية تحت قيادة مركزية حتى ولو ظهر ضمن المواقف السياسية مطلباً سياسياً عاماً، لكنه يعاكس السياسات العامة لحكومة الدبيبة ويتناقض أيضا مع الآلية التي تنتهجها الولايات المتحدة في تعاملها مع الموضوع الليبي، فالولايات المتحدة الأمريكية أجرت اتصالات مع الفصائل المسلحة في الغرب الليبي، وهي تقوم عبر مقاولين عسكريين أمريكيين بتدريب جماعات مسلحة في طرابلس وبالتنسيق مع وزارة الخارجية الأمريكية، في الظل وبعيداً عن القيادة الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم) بشكل مباشر، ما يؤشر إلى أنها نشاط استخباراتي بالدرجة الأولى لرسم توازنات خاصة بين المجموعات المسلحة.

عمليا فإن الاعتماد الأساسي للداخلية الليبية يستند على ما تقدمه الولايات المتحدة من خطط ومساعدات عبر شركات أمنية خاصة مثل “أمنتوم”، حيث تهدف هذه الجهود إلى تأمين مناطق استراتيجية مثل قاعدة الوطية العسكرية، وهو ما يجعل تأسيس نظام أمني أمراً صعباً في ظل مسألتين أساسيتين:

  • الأولى توزع النفوذ للقوى الأمنية الليبية التابعة لحكومة الدبيبة وفق شكل من التنافس والتحالف مع الفصائل المسلحة المختلفة، وبهذه الصورة فإن بقاء المجموعات المسلحة يشكل جزء من المصالح لبعض أطراف الأجهزة الأمنية.
  • الأمر الثاني مرتبط برؤية الولايات المتحدة للوضع الأمني، حيث يتمحور اهتمامها على تأمين مواقع عسكرية محددة يمكن استخدامها في الدعم اللوجستي لتواجدها، بينما تترك مهمة التعامل مع الفصائل المسلحة للشركات الأمنية الخاصة ولجهاز الاستخبارات الأمريكي الموجود في ليبيا.

صورة الغرب الليبي توضح مسألة أعقد من مسار الانتخابات، لأنها تلخص رؤية الاستراتيجية الأمريكية والغربية عموماً لمستقبل مصالحها في ليبيا، فهي معنية بالدرجة الأولى بتقوية نفوذهابغض النظر عن الطريقة التي يتم بها هذا الأمر، وهي أيضاً تسعى لرسم العملية السياسية على مقاس هذه المصالح، بينما يقدم الوضع الأمني بالنسبة لها فرصة لرسم التوازنات بشكل يلائم طموحاتها، فتوحيد الأجهزة الأمنية هو عملية سياسية بالدرجة الأولى وليست إجراءات لتدريب بعض العناصر أو لتقوية الجهاز الأمني، ما يؤكد أن الرؤية السياسية المشتركة لليبيين هي الوحيدة القادرة على رسم مسار سياسي يفرض في النهاية حالة أمنية مستقرة.

بقلم مازن بلال

السودان بين الصراع الدولي والأزمات الإنسانية

اقرأ المزيد