05 ديسمبر 2025

تظهر أزمة طرابلس مع الحكومة اليونانية في مشهدين متعارضين، حيث تستقبل الدبلوماسيين اليونانيين بابتسامات مهذبة، بينما تُودع بعثة ليبيا لدى الأمم المتحدة وثيقةً تُعلن ثورة صامتة على خرائط النفوذ التقليدية.

المذكرة الموجهة للأمم المتحدة مرفقة بخرائط وإحداثيات دقيقة، فهي لم تُلغِ اتفاقيةَ الحدود البحرية بين مصر واليونان فحسب، بل كشفت أن الصراع الحقيقي يدور حول 3 تريليونات متر مكعب من الغاز، وانقساما ليبياً يُحوِّل البلاد إلى رقعة شطرنج لقوى إقليمية.

تشن الوثيقة هجوما على محورين؛ فتبطل شرعية التحركات اليونانية جنوب كريت، وتحاول تثبيت الاتفاق الليبي-التركي (2019) كمرجعية وحيدة، كما أنها تكشف تناقضا جيوسياسيا حادا، فحكومتا طرابلس منتهية الولاية لها وجهة نظر، حيث تقف فوق أرضية من الخرائط المتفجرة، فالوثيقة مجرد ضوء كاشف لكارثةٍ أعمق: ساحلٌ ليبيٌّ ممتدٌّ 1770 كم تحاول طرابلس بيعه بشكل علني.

الوثيقة المفجِّرة: إحداثيات تُقلب موازين المتوسط

تم تقديم الوثيقة عبر الممثل الدائم لليبيا لدى الأمم المتحدة “طاهر السني”، وهي تطرح إعلانا نهائيا لحدود الجرف القاري؛ ينسف المكاسب اليونانية المتمثلة في إبطال اتفاقية 2020 بين اليونان ومصر، ووصفها بأنها “مناقضة للقانون الدولي ومبدأ الإنصاف”، ورفض الخطط اليونانية للتنقيب جنوب كريت (2021-2024) واعتبارها “انتهاكاً صارخاً للسيادة”، والتمسك بالاتفاق مع تركيا (2019) كأساس وحيد لترسيم الحدود، مع منح جزر كريت “تأثيرا هامشيا”

وفي مشهد يعكس التأزم السياسي قامت بنغازي بإحالة اتفاقية ترسيم الحدود مع تركيا إلى البرلمان في يونيو، وهدد رئيس وزرائها “أسامة حماد” بـالرد بالمثل” عبر منح تراخيص تنقيب في المناطق المتنازع عليها، أما طرابلس فاستقبلت وزير الخارجية اليوناني “جيرابيتريتيس” يوم 15 يوليو، لكن بيانها الرسمي تجاهل تماما ملف الحدود البحرية، واكتفى بالحديث عن “إحياء اللجان الفنية المشتركة”.

الغاز: الكنز المدفون تحت الأمواج

خلف السجالات القانونية، تكمن المعادلة الحقيقية المتمثلة في احتياطيات الغاز جنوب كريت التي تُنهي تبعية أوروبا للغاز الروسي، واتفاق ليبيا-تركيا الموقع مع طرابلس ويسمح لأنقرة بالتنقيب على بعد 50 كم فقط من السواحل اليونانية.

عمليا فإن أوروبا لديها احتياجات طاقة متزايدة بعد العملية العسكرية في أوكرانيا، وساحل ليبيا الممتد 1770 كم تحوّل إلى ساحة حرب بالوكالة، ولكن تجليات الأزمة قانونيا تعطي صورة أخرى، فالموقف الليبي يرى أن طول الساحل الليبي يفوق ساحل كريت (1046 كم)، فلا يجوز تحويل الجزيرة إلى “حاجز بحري” استناداً لحكم محكمة العدل 1985 في نزاع ليبيا-مالطا.

أما الرد اليوناني فيعتبر كريت جزء لا يتجزأ من أراضيها، واتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار تمنحها حقوقاً كاملة، فاليونان تُريد تحويل جزرها إلى قواعد اقتصادية، بينما القانون الدولي وفق وجهة نظر ليبية يعترف بالأحقية التاريخية للسواحل الرئيسية.

أذرع إقليمية: معركة بالوكالة

المشهد في الأزمة يظهر وفق التحركات الإقليمية فتركيا تُجهز سفن تنقيب، وتقدم دعما فنيا لبنغازي، ومصر تنسق مع اليونان؛ حيث جرى اتصال هاتفي بين السيسي وميتسوتاكيس يوم 16 يوليو حول “حماية المصالح المشتركة”، أما الاتحاد الأوروبي فأصدر بيانا في يونيو يصف اتفاق ليبيا-تركيا بأنه “باطل قانونياً”.

وتتراوح السيناريوهات اليوم بين تصديق البرلمان الليبي على اتفاقية تركيا، ما يُدفع باليونان ومصر لبدء تنقيب أحادي، أو منح تراخيص تنقيب من بنغازي يُهدد بمواجهات بحرية جنوب كريت، أو حتى إعلان اليونان بشكل منفرد عن حدود مناطقها الاقتصادية، ما سيُفجّر أزمةً مع أنقرة.

المأزق الليبي: السيادة المهشمة

بينما يُناشد رئيس المجلس الرئاسي “محمد المنفي” الاتحاد الإفريقي للوساطة، تكشف الأزمة واقعا أعمق، فالثروات الطبيعية تُسرق بينما 35% من الليبيين تحت خط الفقر، والانقسام السياسي يُحوّل الساحل إلى “نقطة صراع” للمصالح الخارجية.

متى تنتهي حرب الخرائط؟

الأزمة ليست نزاعا حدوديا عاديا، بل اختباراً لمصير دولة تمتلك أطول ساحل في شمال إفريقيا، واحتياطيات غاز تُغيّر موازين القوى، وطبقة سياسية تُفضّل الاصطفاف خلف الخارج بدل الوقوف مع قرار وطني، فالشرط الأساسي هو التوافق السياسي على خريطة واحدة تمثل ليبيا الموحدة بدلا من المصالح المتشظية، فالبحر المتوسط لا يحتمل المزيد من الخطوط الحمراء.

بقلم: مازن بلال

غوغل تعلن عن تغيير في مدفوعات صانعي المحتوى في مصر

اقرأ المزيد