لم يكن اعتراض جماعة الإخوان المسلمين على خارطة الطريق الأممية الأخيرة في ليبيا سوى امتدادٍ منطقي لتآكل رصيدها السياسي وتضاؤل تمثيلها الشعبي في الساحة الليبية.
لعبت الهزائم الانتخابية المتكررة، والانقسامات الداخلية، والرفض الشعبي المتزايد، في دفع هذا التيار إلى تبنّي خطاب يحاول إضفاء طابع سيادي على اعتراضه، بينما يتكشّف في العمق عن محاولة لوقف الزمن عند لحظة فقدان النفوذ.
منذ أن أخرج برناردينو ليون الممثل الخاص ورئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا ورقة التفاهم السياسي من جيبه عام 2015، معلناً تسمية فائز السراج رئيساً لحكومة الوفاق، انطلقت مرحلة جديدة من التدويل العميق للقرار الليبي، لكن ذلك التدخل، الذي تنتقده جماعة الإخوان بقوة اليوم، كان في حينه من أبرز حواضن شرعيتهم المؤقتة، فاعتراضهم الحالي لا يأتي من منطلق مبدئي، بل من موضع سياسي مهزوم، يحاول عبره الإخوان والمفتي المعزول الصادق الغرياني التموضع في خارطة جديدة، بعد أن فقدوا الكثير من شعبيتهم في الشارع وضيّق عليهم الحلفاء.

تفكيك الاعتراض: ما وراء خطاب “القوامة“
دعوة محمد مرغم، القيادي الإخواني، إلى “تطليق ليبيا من قوامة البعثة الأممية”، ليست مجرد عبارة راديكالية تعبيرية، فهي انعكاس لتحول استراتيجي لدى تيار الإسلام السياسي، الذي بات يفتقد أدوات التأثير القوية، في ظل خسارات انتخابية متكررة وعزلة شعبية متصاعدة.
يرى مرغم أن الليبيين باتوا أسرى لإملاءات دولية تُصاغ خلف الأبواب المغلقة، وأن عشر سنوات من إحاطات المبعوثين الأمميين أنتجت حالة “عقم سياسي”، لا تمكّن البلاد من ولادة شرعية محلية حقيقية، ولكن خلف هذا الخطاب الوطني الظاهري، يكمن سؤال مركزي فكيف يمكن لجماعة تواجه هذا القدر من الرفض الشعبي والانكفاء السياسي أن تستمر كفاعل في مشهد يتطلب شرعية متجددة ومصداقية مفقودة؟

المفتي الغرياني: المرجعية التي فقدت قدرتها على الضبط
يأتي موقف الغرياني امتدادا لرفض أطراف بعينها لفكرة الاستفتاء الشعبي كآلية للخروج من الانسداد السياسي، فهو وصف الاستطلاع الذي أطلقته البعثة الأممية بأنه “يفتقر للمعايير” ولا يمكنه تحديد مصير البلاد.
الغرياني، الذي سبق أن أفتى بتحريم التظاهر ضد حكومة الدبيبة، يجد نفسه في موقع الدفاع عن نفوذ تيار سياسي بات يترنح، ودعمُه للمراسيم الرئاسية الأخيرة، التي أصدرها محمد المنفي رئيس المجلس الرئاسي الليبي من فراش مرضه، ليست إلا محاولة لإبقاء المسار السياسي تحت سيطرة حلفاء الأمس.

الدبيبة والخارطة الأممية: تحالف هش؟
من المفارقات أن عبد الحميد الدبيبة، رئيس حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية، يظهر دعما علنيا لخارطة الطريق الأممية، لكنه عمليا لم يبد أي استعداد للتنحي أو تسليم السلطة، ما ينسف جوهر العملية الانتقالية.
وتحالف الدبيبة مع الإخوان ليس تنظيميا بقدر ما هو تكتيكي، يهدف إلى إطالة أمد سلطته وتحييد خصومه، ورغم محاولاته لتقديم نفسه كـ”مرشح مدني جامع”، إلا أن ارتباطه بتيارات فقدت شعبيتها، يجعل من استمراره في موقع القيادة أمرا مليئا بالتناقضات.

هزائم انتخابية… وأوهام شعبية
الانتخابات البلدية الأخيرة كشفت حجم التراجع الذي يعيشه الإخوان، ففي مدن مثل زليتن وطرابلس، خسر مرشحوهم أمام قوائم مدنية مستقلة، وهو ما فسّره مراقبون بأنه تعبير عن نضج شعبي ورفض صريح للاستقطاب الإيديولوجي.
هذا التراجع لم يكن معزولا حيث سبقته خسائر ثقيلة في انتخابات 2012 و2014، وتفاقم بفعل الانقسامات الداخلية التي ضربت حزب العدالة والبناء، ودفعت بقيادات بارزة إلى الانشقاق، وضمن هذا السياق، تحوّلت جماعة الإخوان إلى ما يشبه الجسد السياسي المعلّق، غير القادر على تجديد شرعيته أو استعادة تماسكه.

بين منفي وعقيلة صالح: مراسيم تهزّ الثقة
مراسيم رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، التي قضت بتعليق قانون المحكمة الدستورية والدعوة إلى استفتاء شعبي على الدستور، كانت القشة التي فجّرت مجددا أزمة الثقة بين المؤسسات، فرحب بها الإخوان والغرياني، في حين رفضها عقيلة صالح رئيس مجلس النواب واعتبرها تجاوزا للصلاحيات.
وهنا تبرز مفارقة سياسية مهمة، فالأطراف التي ترفض البعثة الأممية، وتدعو إلى “فك القوامة”، هي ذاتها التي تحتفي بمراسيم رئاسية غير متفق عليها داخل المجلس الرئاسي، ما يضعها في موضع المتناقض سياسيا.

بين خطاب السيادة ومصالح النفوذ
شعارات “استعادة السيادة” و”رفض التدخل الأجنبي” هي في جوهرها أدوات خطابية، تُستخدم لتبرير الرفض المسبق لأي مسار لا يضمن للإخوان وحلفائهم حصة حقيقية في السلطة.
كما أن الحديث عن “شرع جديد” أو “ملا عمر ليبي” كما جاء في منشور مرغم، يكشف نزوعا إلى نمط حكم غير ديمقراطي، يستحضر رموزا خارج السياق الليبي الحديث، ويعكس قطيعة كاملة مع مفاهيم التعددية والمؤسسات.
عمليا فإن خارطة الطريق الأممية، في جوهرها، ليست سوى محاولة جديدة لكسر الجمود الليبي، لكن رفض أطراف مثل الإخوان، والمفتي المعزول، والدبيبة لها، سواء بشكل مباشر أو ضمني، يجعلها تواجه مصيرا شبيهًا بمبادرات سابقة.
والمشهد الليبي يتجه إلى استقطاب جديد، واستثمار إعلامي وسياسي مكثّف من طرف الإخوان في لحظة ضعفهم، وفي هذا السياق، يبدو أن ما يحرك المواقف ليس المصلحة الوطنية، ولا مستقبل الانتخابات، بل حسابات بقاء، في مشهد لم يعد يحتمل المزيد من التأجيل.
ربما تكون هذه الخارطة الأممية محاولة لإنقاذ ليبيا من دورة جديدة من الفوضى، لكنها لن تنجح ما لم تُقطع صلات النفعية بين السلطة والمسلحين، وتُفكك البنى الحزبية التي تعارض الديمقراطية عندما تخسر.
وفي انتظار مخرجات لجنة العشرين، تبقى الأنظار على قدرة الأمم المتحدة على تجاوز حالة الإنكار السياسي، واستعادة زمام المبادرة من فاعلين اعتادوا الالتفاف على كل خارطة لا ترسم طرقا تقودهم إلى السلطة.
بقلم مازن بلال
اليونان ترسل سفنا حربية قبالة ليبيا
