توشك العدالة الفرنسية على إصدار حكم تاريخي غير مسبوق. فالرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، يواجه اليوم احتمال السجن لمدة سبع سنوات على خلفية اتهامات بتلقي تمويل لحملته الرئاسية عام 2007 من نظام الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي.
شهد الرأي العام الفرنسي تحولاً في الاهتمام بهذه المحاكمة التي اختُتمت في أوائل أبريل، وشغلت وقائعها الأوساط السياسية في فرنسا وخارجها،فالنيابة العامة المالية طالبت بعقوبة صارمة بالسجن سبع سنوات (خمس منها نافذة)، وغرامة قدرها 300 ألف يورو، إضافة إلى حرمانه من الترشح لأي منصب رسمي لمدة خمس سنوات، وتأتي هذه المطالبة في وقت يواجه فيه ساركوزي إدانات أخرى في قضايا فساد، ما يعمّق أزمته القانونية ويجعلها اختباراً كبيراًللنظام القضائي الفرنسي.
مسار هذا الحكم القضائي تكون بشكل ملحوظ واتخذ منحاً معقداً، حيث بدأ كتحقيق في انتهاكات تمويل انتخابي، وتحول بعد ذلك إلى قضية سياسية وجنائية معقدة تتشابك فيها المصالح الجيوسياسية والفساد، وصراعات للانتقام، تعود بجذورها إلى خيمة في طرابلس عام 2005.
من خيمة القذافي إلى قصر الإليزيه
تعود جذور القضية إلى زيارة قام بها ساركوزي إلى ليبيا عام 2005 بصفته وزيراً للداخلية، حيث التقى معمر القذافي تحت الخيمة الشهيرة، ونقل السفير الفرنسي السابق لدى ليبيا، جان-لوك سيبيود، شهادة حول اللقاء بين الرجلين الذي استمر على انفراد لما يزيد عن نصف ساعة، وتبعه اجتماع رسمي قصير، ونفى السفير معرفته بتفاصيل ما جرى خلال اللقاء، لكن النيابة استنتجت أن هذا الاجتماع المنفرد كان فرصة لإبرام اتفاق تمويل سري.
وأكد الادعاء خلال جلسات المحاكمة أن القذافي وافق خلال تلك الفترة على تمويل حملة ساركوزي بما يصل إلى 50 مليون يورو، وهو ما يتجاوز سقف الإنفاق الانتخابي القانوني في فرنسا، واستندت هذه الاتهامات إلى مذكرات استخباراتية ليبية، وشهادات من مسؤولين ليبيين مثل سيف الإسلام القذافي والبغدادي المحمودي، وتحويلات مالية مشبوهة وصلت إلى وسيط الحملة زياد تقي الدين، الذي أقر سابقاً بتسليم “حقائب نقدية” إلى مساعدي ساركوزي، أما الرئيس الأسبق، فأنكر كل شيء، معتبراً أن القضية “مؤامرة سياسية وانتقام من نظام أطاح به”، في إشارة إلى دعمه للتدخل العسكري في ليبيا عام 2011.
حياد فرنسي.. أم تناقض واضح؟
رغم محاولات فرنسا الرسمية الإبقاء على الحياد تجاه جميع الشخصيات الليبية الواردة في القضية، إلا أن المفارقة لافتة هي أن الرئيس المتهم هو ذاته الذي قاد حملة القصف التي أنهت حكم القذافي، ويشير مراقبون إلى أن المحاكمة نفسها لم تكن لتحدث لولا تدخل ساركوزي العسكري الذي أطاح بالنظام الليبي وأشعل الفوضى في البلاد، ومع أن القضاء الفرنسي حرص على التركيز على الوقائع القانونية دون الانجرار إلى نزاعات سياسية أو دبلوماسية، فإن سير المحاكمة كشف عن شبكة معقدة من العلاقات والمصالح بين باريس وطرابلس، وكان لافتاً أن العديد من الشخصيات الليبية المحورية في القضية توفوا أو أصبحوا عاجزين عن الإدلاء بشهاداتهم.
عمليا،ً فإن هذه المحاكمة ليست الأولى لساركوزي، حيث سبق أن أُدين في قضيتي فساد أخريين، إحداهما تتعلق بالتنصت غير المشروع، والأخرى بتمويل غير قانوني لحملة 2012، ويقضي حالياً عقوبة بالسجن لمدة عام تحت المراقبة بسوار إلكتروني، ورغم ذلك، ما يزال متمسكاً ببراءته، ويؤكد فريق دفاعه أن الاتهامات مبنية على شهادات متضاربة ولا تستند إلى دليل مادي مباشر، إذ لم يتم العثور على أي تحويلات مالية موثقة لحسابه أو حسابات فريق حملته.
أبعاد أعمق من مجرد محاكمة
تتجاوز القضية شخصية ساركوزي لأنها تقود لتفتح ملفات حساسة عن العلاقة بين الديمقراطيات الغربية وما يطلقون عليه بالأنظمة الاستبدادية، فإذا ثبتت التهم، فذلك يعني وفق ادعاءاتهم أن زعيماً أوروبياً وصل إلى الحكم بدعم مالي من دكتاتور، كما تضع المحاكمة النظام القضائي الفرنسي أمام اختبار نزاهة غير مسبوق، في وقت يتزايد فيه الشك العام في المؤسسات.
كما تكشف القضية دور وسائل الإعلام الاستقصائية مثل “ميديا بارت”، التي لعبت دوراً محورياً في كشف خيوط التمويل المشبوه، ما يعكس تحول الإعلام إلى شريك حقيقي في الرقابة السياسية والقانونية، وإدانة ساركوزي في هذه القضية من شأنها أن تعيد كتابة تاريخه السياسي بالكامل، فما كان يُنظر إليه سابقاً كرئيس إصلاحي يتمتع بشخصية قوية، بات اليوم محاطاً بشبهات فساد وتشكيك في شرعية وصوله إلى الرئاسة، ومع أن البعض يرى في المحاكمة حملة تشهير سياسية، فإن فئة واسعة من الفرنسيين تعتبرها لحظة محاسبة تاريخية.
ما هو مؤكد أن هذه القضية، بغض النظر عن الحكم المنتظر في سبتمبر المقبل، أعادت صياغة صورة ساركوزي في الوعي العام، وكشفت عن شبكة علاقات خفية، وتحالفات مالية مشبوهة، وشهية لا تشبع للسلطة، كما أثبتت أن الحصانة الرئاسية لا تعني الإفلات من العقاب، وأن هناك من يوظف أي حدث ليستفيد منه لاحقاً لرسم سياسات جديدة.
بقلم : نضال الخضري