لم تحمل زيارة مستشار الرئيس الأميركي للشؤون الإفريقية والشرق الأوسط، مسعد بولس، اتفاقيات كبرى، لكنها نقلت ما هو أخطر، وأعطت مؤشرات سياسية جديدة ومواقف تمثّل ملامح سياسة أميركية جديدة في ليبيا.
الزيارة حظيت باهتمام داخلي وخارجي، وشملت جولته طرابلس وبنغازي، ولقاءات مع القيادات في الشرق والغرب الليبيين، وأعادت توجيه البوصلة نحو دور أميركي آخذ في التبلور ضمن الأزمة الليبية.

محاور اللقاءات ورسائل مزدوجة
حرص بولس على لقاء القادة الفعليين للقيادات في شرق والغرب الليبيين، فعقد مشاورات مع عبد الحميد الدبيبة في طرابلس، وخليفة حفتر في الرجمة، ولم تقتصر الزيارة على الحالة البروتوكولية، بل عكست وبوضوح أن واشنطن باتت تنظر إلى حفتر كطرف مساوٍ للدبيبة، وربما أكثر أهمية من حيث القدرات الميدانية، والنفوذ على الأرض، والتحكم بعائدات النفط والمسارات الأمنية.
ويشير لقاء بولس المنفصل بصدام حفتر إلى اعتراف مبطن به كلاعب مستقل، ويُمهَّد لرسم دور في الترتيبات المقبلة، ففي طرابلس، قدم الدبيبة عرضا لشراكة اقتصادية بقيمة 70 مليار دولار، طُرحت كمغريات لشراء الدعم الأميركي، في ظل تضاؤل الشرعية السياسية لحكومته.
غير أن توقيع الاتفاق بين شركة مليتة وشركة “هيل إنترناشيونال” الأميركية لتحديث البنية التحتية الطاقية بقيمة 235 مليون دولار، جرى في غياب الحكومة، في إشارة أميركية إلى الرغبة في تحييد النفط عن الخلافات السياسية.

نهج غير تقليدي
سياسة بولس لا تخضع لمعايير الدبلوماسية التقليدية، بل تقوم على المزج بين القوة والحوافز الاقتصادية، وهو ما ظهر في حديثه عن الشراكات التنموية مقابل الاستقرار، وفي وساطته الأخيرة التي أفضت إلى اتفاق سلام بين رواندا والكونغو، وهذ النموذج يُراد تطبيقه في ليبيا عبر نتائج لا خطابات، وتوازن لا تحالف، وانفتاح على جميع القوى الفاعلة.
المقاربة الأميركية الجديدة لا تعتمد على دعم حكومة على حساب أخرى، بل تنظر إلى ما يمكن تحقيقه من مصالح استراتيجية، وهي مقاربة تعكس بوضوح تأثير فلسفة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب السياسية التي تركز على النتائج الاقتصادية والأمنية لا القيم الديمقراطية المجردة.

واشنطن تبحث عن “رجل قوي” جديد؟
ثمة من قرأ في استقبال بولس من طرف صدام حفتر بداية هندسة أميركية جديدة تستبدل النهج التقليدي بأسلوب يعتمد على الشخصيات القوية القادرة على فرض الاستقرار، لكن في القراءة السياسية يصعب رؤية تحول أمريكي يجعل من واشنطن حليفاً لكافة الطيف السياسي الليبي، فالمسألة هنا تتعدى الزيارات أو الإشارات إلى احتمال التعامل مع الشرق الليبي أو مع المكونات السياسية الليبية بمعزل عن احتكار المصالح، على الأخص في ظل إدارة دونالد ترامب التي تجعل السياسة الدولية صفقات وليس تحالفات.
الأمر يتعدى قادة الشرق، فالأميركيون يسعون إلى إعادة تموضع جيوسياسي في منطقة باتت محط تنافس مفتوح بين روسيا والصين والاتحاد الأوروبي، وتمثل ليبيا خاصرة رخوة في الشمال الإفريقي، وبوابة مباشرة إلى جنوب الصحراء الكبرى، وممراً حيويا للنفط والهجرة.

التوازنات الإقليمية والحسابات الجيوسياسية
زيارة بولس إلى ليبيا لم تكن معزولة عن جولته في إفريقيا التي شملت الكونغو، رواندا، تونس، الجزائر، والمغرب، ففي الكونغو ورواندا، حيث رعت الولايات المتحدة اتفاقاً يتيح لها موطئ قدم في سوق المعادن الحيوية، وفي الجزائر، رغم التوتر الجمركي، أكدت واشنطن أهمية العلاقة الثنائية، خصوصاً في مجالات الطاقة والأمن، أما في تونس فاصطدمت بفتور سياسي ورفض قاطع لتوظيف القضية الفلسطينية ضمن أجندة أميركية.
هذا الطيف من الزيارات يعكس استراتيجية أميركية تقوم على العودة إلى القارة عبر بوابات الاقتصاد والأمن، لا عبر المعونة أو دعم الديمقراطية، أما ليبيا فهي بالنسبة إلى إدارة ترامب ركيزة مزدوجة، فهي قاعدة للمصالح الطاقية، وخط دفاع أمامي ضد تغلغل روسيا والصين، وورقة استراتيجية لضبط توازنات البحر المتوسط.

الانتخابات مؤجلة.. والمبادرات غائبة
في خضم هذه التحركات، تبدو العملية السياسية الليبية مجمدة، فالزيارة لم تأتِ بأي جديد بشأن الانتخابات، أو توحيد الجيش، أو ترحيل القوات الأجنبية، بل إن بولس استبعد لقاء مجلسي النواب والدولة، ما يشير إلى قراءة أميركية ترى فيهما جزءاً من الأزمة لا من الحل.
كما أن دعم خطة الأمم المتحدة المرتقبة في أغسطس لا يعكس حماساً أميركيا لمبادرات سياسية حاسمة، إنما يعكس تفضيلاً لبقاء الأوضاع تحت السيطرة.

بين الاستكشاف والانخراط: أي دور لأميركا؟
ليست زيارة بولس إعلاناً عن تدخل مباشر، لكنها إشارة إلى تحول نوعي، فالولايات المتحدة تختبر الجغرافية والميدان، وتبعث برسالة إلى الدول الكبرى أن ليبيا تحظى باهتمام واشنطن، لكنها لا تنظر لتسوية كبرى، بل هي مستعدة لبناء توازن جديد، أكثر براغماتية، وأقل التزاماً بالشكليات.
واشنطن تسعى إلى تحييد القطاعات الحيوية، مثل النفط والطاقة والاتصالات، عن الصراع الداخلي، وضمان أن لا يتحول شرق ليبيا إلى منطقة بعيدة عنه وقريبة من قوى أخرى، ومقاربة بولس ليست سوى البداية، ومن المتوقع أن تشهد تكثيف الجهود الدبلوماسية إضافة للاهتمام الاقتصادي والأمني.

الخطاب الرمزي والاستراتيجية العملية
من الناحية الرمزية، تؤكد الزيارة عودة أميركا إلى المشهد الليبي، وإن كانت العودة مشروطة بالمصالح، أما من الناحية العملية، فهناك محاولة واضحة لصياغة قواعد لعبة جديدة؛ فلا أحادية في الشرعية، ولا انحياز لطرف، بل تفاوض مع الأقوى، والدفع نحو توافق لا يلغي التنافس.
زيارة مسعد بولس إلى ليبيا جسَّدت تحولاُ في المقاربة الأميركية، فمن دبلوماسية البيانات، إلى دبلوماسية “المعاملات”، ومن دعم أحد الأطراف، إلى بناء علاقات مع من يملك النفوذ، والمشهد الليبي اليوم ليس أقرب إلى الحل، لكنه بالتأكيد صار ضمن تركيز البيت الأبيض، وهذا ما يوحي بحسابات جديدة.
وإذا ما ترجمت زيارة بولس إلى سياسة متواصلة، فإن ليبيا ستجد نفسها أمام لحظة إعادة هندسة داخلية، بأدوات خارجية، تشبه ما شهدته الكونغو ورواندا من قبل، والسؤال المعلق: من سيكون شريك أميركا الليبي المفضّل؟ ومتى تتوقف واشنطن عن المراقبة وتبدأ الفعل؟
بقلم نضال الخضري
ليبيا تستضيف مواجهة الأهلي والهلال في دوري أبطال إفريقيا
