أعادت صحيفة نيويورك تايمز فتح ملف التدخل الأميركي في ليبيا من زاوية غير مألوفة، عبر تسليط الضوء على زيارة مسعد بولس، صهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومستشاره لشؤون إفريقيا والشرق الأوسط، إلى طرابلس وبنغازي في يوليو الماضي.
لم تُقدَّم الصحيفة الزيارة بوصفها مجرد نشاط بروتوكولي، بل كحدث يكشف عن تقاطع المصالح العائلية لترامب مع رهانات النفط، وحسابات النفوذ في بلد يواجه انقسامات سياسية وأمنية عميقة.
وجود بولس في موقع دبلوماسي رسمي، مع علاقاته العائلية وشبكاته التجارية، يثير تساؤلات حول حدود الفصل بين العمل الحكومي والمصالح الخاصة، فهل تهدف واشنطن حقا إلى دعم استقرار ليبيا وتوحيد مؤسساتها، أم أن الأولوية تنحصر في ضمان تدفق النفط واستثمار الأزمة بما يخدم مصالحها الإستراتيجية والاقتصادية؟
صهر البيت الأبيض في قلب المشهد الليبي
مسعد بولس، رجل الأعمال اللبناني-الأميركي، اكتسب حضوره السياسي من ارتباطه العائلي بترامب أكثر من خبرة دبلوماسية، فالليبيين أنفسهم يلقبونه في المجالس الخاصة بـ”أبو تيفاني”، في إشارة إلى ابنته التي ارتبطت بعائلة الرئيس.
ظاهرياً جاء بولس مبعوثاً رسمياً يبحث في استقرار ليبيا وتوسيع التعاون في مجال الطاقة، لكن في الكواليس، ارتبطت الزيارة بواقع مختلف تماماً، وظهرت كإجازة مترفة قضتها تيفاني ترامب وزوجها مايكل بولس على متن يخت يملكه ملياردير تركي يستفيد مباشرة من زيادة الإنتاج النفطي الليبي.

هذا التزامن بين العمل الرسمي والرفاهية العائلية ألقى بظلال كثيفة على مصداقية مهمة بولس،فلم يعد ممكناً التمييز بسهولة بين دوره كمبعوث دبلوماسي وبين موقعه كعضو في شبكة مصالح عائلية ذات امتداد تجاري واضح.
صفقات معلنة وأخرى خلف الأبواب
زيارة بولس ترافقت مع لقاءات رفيعة المستوى شملت رئيس حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية عبدالحميد الدبيبة، ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، والقائد العام للقوات المسلحة العربية الليبية خليفة حفتر، وتم خلال هذه اللقاءات التشديد على دعم العملية السياسية، وتوقيع اتفاقيات مع المؤسسة الوطنية للنفط.

ما لم يُعلن رسمياً عن الزيارة يشكل مؤشرات عميقة عن المساحات السياسية التي شملتها لقاءات بولس مسعد، فكان هناك عشاء خاص مع مستشار الأمن القومي إبراهيم الدبيبة في فيلا بطرابلس، تخلله حديث عن فك تجميد الأصول الليبية مقابل عقود لشركات أميركية، ورغم نفي بولس اللاحق لهذا الأمر، لكن مجرد طرح هذا الاقتراح يكشف عن خلط بين المصالح الاقتصادية والقرارات السيادية.
الأكثر إثارة للجدل كان العرض الذي قدمته حكومة الدبيبة لبولس عبر شراكة اقتصادية بقيمة 70 مليار دولار تشمل مشاريع في الطاقة والبنية التحتية،وبدا العرض محاولة مكشوفة لاستمالة واشنطن وضمان دعم سياسي لحكومة تواجه اعتراضات داخلية وإقليمية، وبولس أكثر من مجرد وسيط؛ فكان قناة مفتوحة بين المصالح العائلية الأميركية ورغبة حكومة محلية في البقاء.
الطاقة كمحرك أساسي
النفط كان الخيط الناظم للزيارة، فواشنطن، وسط اضطرابات أسواق الطاقة العالمية، ترى في ليبيا مصدراً بديلاً وحيوياً، فلم يكن غريباً أن تشمل الزيارة توقيع اتفاقية بقيمة 235 مليون دولار بين شركة ليبية وأخرى أميركية متخصصة في إدارة مشاريع الغاز والبنية التحتية، ومثل هذا الاتفاق يؤكد أن الدبلوماسية الأميركية لا تتحرك فقط تحت لافتة الاستقرار السياسي، بل وفق براغماتية اقتصادية تضع الطاقة في المقدمة.

لكن المقاربة الأخطر في الصفقات واللقاءات غير المعلنة لبولس تكمن في منح شرعية لقادة محليين متهمين بالفساد أو الاستبداد، وتُهمش القوى المدنية والإصلاحية، فواشنطن، في سعيها وراء النفط، تُسهم في إعادة إنتاج نفس الانقسامات التي تعيق توحيد ليبيا منذ سقوط القذافي.
نفوذ تركي وحسابات متشابكة
إقليمياً سلطت الزيارة الضوء على دور تركي خاص، فوجود تيفاني ومايكل بولس على متن يخت يملكه ملياردير تركي مرتبط بالنفط الليبي، يوضح تشابك المصالح الأميركية-التركية في ليبيا، فأنقرة، التي عززت نفوذها غرب البلاد عبر دعم حكومة طرابلس، تجد في زيادة الإنتاج النفطي فرصة لتقوية شركاتها مثل “بي جي إن إنترناشيونال”، أما واشنطن، عبر بولس، فلا تعترض على هذا النفوذ، بل توظفه بما يخدم مصالحها المباشرة.

عملياً وضعت الزيارة المشهد الليبي ضمن شبكة معقدة من المصالح، فهناك مسؤولون محليون يقدّمون بلدهم في صورة صفقات مالية ضخمة، ورجال أعمال أتراك يعززون نفوذهم في قطاع الطاقة، فيما يتحرك مسعد بولس بين هذه الأطراف موازناً بينها، في إطار يظل مفتوحاً أمام خدمة المصالح العائلية الأميركية.
اختبار للدبلوماسية الأميركية
لم تكن الزيارة بروتوكولية بل تداخلا ًما بين الدبلوماسية التقليدية والاتصالات الخاصة؛ الأمر الذي أوجد حالة إرباك في الأوساط السياسية الحليفة لواشنطن في ليبيا، فبولس لم يكتفِ بلقاء القادة السياسيين، بل حاول عقد اجتماعات خارج القنوات الرسمية، كما في طلبه لقاء ملك المغرب دون تنسيق مع البيت الأبيض، وهذه التصرفات دفعت دبلوماسيين غربيين إلى التحذير من حالة تؤدي إلى التشكيك في مصداقية السياسة الخارجية الأميركية.
رغم الجدل حول الزيارة لكنها عكست توجهاً جديداً في إدارة ترامب الثانية، فظهرت دبلوماسية براغماتية تعتمد على النفوذ الاقتصادي أكثر من الأطر التقليدية، وهدفها ليس فرض حلول سياسية شاملة بل تأمين موقع لواشنطن في لعبة النفوذ الدولي على ليبيا، بموازاة الدول الأخرى.
ليبيا كاختبار أوسع
ليبيا بالنسبة إلى واشنطن لم تعد مجرد ملف إقليمي، بل اختبار لنهجها في إفريقيا، فإذا نجح بولس في تحقيق تفاهمات ولو جزئية، فسيمهد ذلك لمبادرات أوسع تشمل القارة، كما حدث في وساطته السابقة بين رواندا والكونغو، لكن المخاطر تبقى كبيرة لأن العروض المالية الضخمة تُفقد العملية السياسية أي مصداقية شعبية.
في المقابل يبقى غياب خارطة طريق واضحة للانتخابات الليبية مؤشراً على أن الاستقرار لا يزال بعيد المنال، وفي ظل استمرار الميليشيات والانقسام المؤسساتي، فإن أي انخراط أميركي يتحول إلى عامل تنافس إضافي بدل أن يكون عنصراً للتوحيد.
أظهرت زيارة مسعد بولس إلى ليبيا وجهاً غير تقليدي للدبلوماسية الأميركية يخلط بين المصالح العائلية، والصفقات الاقتصادية، والرسائل السياسية، فهو ليس مبعوثاً مثيراً للجدل فقط، بل محرض لبعض المسؤولين الليبيين للمتاجرة بمستقبل بلدهم عبر عروض بمليارات الدولارات، فيما يلعب رجال الأعمال الأتراك دوراً محورياً في صناعة الطاقة.
في المحصلة، تبدو واشنطن عبر بولس عالقة بين مسعى لتأمين مصالحها النفطية ومحاولة لفرض توازن سياسي هش، غير أن براغماتيتها تنتهي إلى تكريس مزيد من الانقسامات التي طبعت ليبيا منذ سقوط القذافي.
بقلم: نضال الخضري
المؤسسة الوطنية الليبية للنفط تحقق مستهدفات 2024
